الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( فما ظنكم برب العالمين ( 87 ) فنظر نظرة في النجوم ( 88 ) فقال إني سقيم ( 89 ) فتولوا عنه مدبرين ( 90 ) فراغ إلى آلهتهم فقال ألا تأكلون ( 91 ) ما لكم لا تنطقون ( 92 ) ) [ ص: 63 ] يقول - تعالى ذكره - مخبرا عن قيل إبراهيم لأبيه وقومه : ( فما ظنكم برب العالمين ) ؟ يقول : فأي شيء تظنون أيها القوم أنه يصنع بكم إن لقيتموه وقد عبدتم غيره .

كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( فما ظنكم برب العالمين ) يقول : إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره .

وقوله ( فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم ) ذكر أن قومه كانوا أهل تنجيم ، فرأى نجما قد طلع ، فعصب رأسه وقال : إني مطعون ، وكان قومه يهربون من الطاعون ، فأراد أن يتركوه في بيت آلهتهم ، ويخرجوا عنه ، ليخالفهم إليها فيكسرها .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم ) رأى نجما طلع .

حدثني يعقوب قال : ثنا ابن علية ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ( فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم ) رأى نجما طلع .

حدثنا بشر قال : كايد نبي الله عن دينه ، فقال : إني سقيم .

حدثت عن الحسين قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد قال : سمعت الضحاك يقول في قوله ( فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم ) قالوا لإبراهيم وهو في بيت آلهتهم : اخرج معنا ، فقال لهم : إني مطعون ، فتركوه مخافة أن يعديهم .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، عن أبيه ، [ ص: 64 ] في قول الله : ( فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم ) قال : أرسل إليه ملكهم ، فقال : إن غدا عيدنا ، فاحضر معنا قال : فنظر إلى نجم فقال : إن ذلك النجم لم يطلع قط إلا طلع بسقم لي ، فقال : ( إني سقيم )

حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ( فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم ) يقول الله : ( فتولوا عنه مدبرين )

وقوله ( إني سقيم ) : أي طعين ، أو لسقم كانوا يهربون منه إذا سمعوا به ، وإنما يريد إبراهيم أن يخرجوا عنه ، ليبلغ من أصنامهم الذي يريد .

واختلف في وجه قيل إبراهيم لقومه : ( إني سقيم ) وهو صحيح ، فروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات " .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب قال : ثنا أبو أسامة قال : ثني هشام ، عن محمد ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله قال : " ولم يكذب إبراهيم غير ثلاث كذبات ، ثنتين في ذات الله ، قوله ( إني سقيم ) وقوله ( بل فعله كبيرهم هذا ) ، وقوله في سارة : هي أختي " .

حدثنا سعيد بن يحيى قال : ثنا أبي قال : ثنا محمد بن إسحاق قال : ثني أبو الزناد ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لم يكذب إبراهيم في شيء قط إلا في ثلاث " ثم ذكر نحوه .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا جرير ، عن مغيرة ، عن المسيب بن رافع ، عن أبي هريرة قال : " ما كذب إبراهيم غير ثلاث كذبات ، قوله ( إني سقيم ) ، وقوله ( بل فعله كبيرهم هذا ) ، وإنما قاله موعظة ، وقوله حين سأله الملك ، فقال أختي لسارة ، وكانت امرأته " .

[ ص: 65 ] حدثني يعقوب بن إبراهيم قال : ثنا ابن علية ، عن أيوب ، عن محمد قال : " إن إبراهيم ما كذب إلا ثلاث كذبات ، ثنتان في الله ، وواحدة في ذات نفسه ، فأما الثنتان فقوله ( إني سقيم ) ، وقوله ( بل فعله كبيرهم هذا ) - وقصته في سارة " وذكر قصتها وقصة الملك .

وقال آخرون : إن قوله ( إني سقيم ) كلمة فيها معراض ، ومعناها أن كل من كان في عقبة الموت فهو سقيم ، وإن لم يكن به حين قالها سقم ظاهر ، والخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخلاف هذا القول ، وقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الحق دون غيره . قوله ( فتولوا عنه مدبرين ) يقول : فتولوا عن إبراهيم مدبرين عنه ، خوفا من أن يعديهم السقم الذي ذكر أنه به .

كما حدثت عن يحيى بن زكريا ، عن بعض أصحابه ، عن حكيم بن جبير ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ( إني سقيم ) يقول : مطعون فتولوا عنه مدبرين ، قال سعيد : إن كان الفرار من الطاعون لقديما .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد عن قتادة ( فتولوا ) فنكصوا عنه ( مدبرين ) منطلقين .

وقوله ( فراغ إلى آلهتهم ) يقول - تعالى ذكره - : فمال إلى آلهتهم بعد ما خرجوا عنه وأدبروا ، وأرى أن أصل ذلك من قولهم : راغ فلان عن فلان : إذا حاد عنه ، فيكون معناه إذا كان كذلك : فراغ عن قومه والخروج معهم إلى آلهتهم ، كما قال عدي بن زيد :


حين لا ينفع الرواغ ولا ين فع إلا المصادق النحرير

[ ص: 66 ] يعني بقوله " لا ينفع الرواغ " : الحياد . أما أهل التأويل فإنهم فسروه بمعنى فمال .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( فراغ إلى آلهتهم ) : أي فمال إلى آلهتهم قال : ذهب .

حدثنا محمد قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي قوله ( فراغ إلى آلهتهم ) قال : ذهب .

وقوله ( فقال ألا تأكلون ما لكم لا تنطقون ) هذا خبر من الله عن قيل إبراهيم للآلهة ، وفي الكلام محذوف استغني بدلالة الكلام عليه من ذكره ، وهو : فقرب إليها الطعام فلم يرها تأكل ، فقال لها : ( ألا تأكلون ) فلما لم يرها تأكل قال لها : ما لكم لا تأكلون ، فلم يرها تنطق ، فقال لها : ( ما لكم لا تنطقون ) مستهزئا بها ، وكذلك ذكر أنه فعل بها ، وقد ذكرنا الخبر بذلك فيما مضى قبل .

وقال قتادة في ذلك ما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( قال ألا تأكلون ) يستنطقهم ( ما لكم لا تنطقون )

التالي السابق


الخدمات العلمية