الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عابدات سائحات ثيبات وأبكارا .

[ ص: 360 ] ليس هذا مما يتعلق بالشرط في قوله ( وإن تظاهرا عليه ) بل هو كلام مستأنف عدل به إلى تذكير جميع أزواجه بالحذر من أن يضيق صدره عن تحمل أمثال هذا الصنيع فيفارقهن لتقلع المتلبسة وتحذر غيرها من مثل فعلها .

فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا عقبت بها جملة ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ) التي أفادت التحذير من عقاب في الآخرة إن لم تتوبا مما جرى منهما في شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفاد هذا الإيماء إلى التحذير من عقوبة دنيوية لهن يأمر الله فيها نبيئه - صلى الله عليه وسلم - وهي عقوبة الطلاق عليه ما يحصل من المؤاخذة في الآخرة إن لم تتوبا ، ولذلك فصلت عن التي قبلها لاختلاف الغرضين .

وفي قوله ( عسى ربه إن طلقكن ) إيجاز بحذف ما يترتب عليه إبدالهن من تقدير إن فارقكن . فالتقدير : عسى أن يطلقكن هو وإنما يطلق بإذن ربه أن يبدله ربه بأزواج خير منكن .

وفي هذا ما يشير إلى المعنى الرابع عشر والخامس عشر من معاني الموعظة والإرشاد التي ذكرناها آنفا .

و ( عسى ) هنا مستعملة في التحقيق وإيثارها هنا لأن هذا التبديل مجرد فرض وليس بالواقع لأنهن لا يظن بهن عدم الإرعواء عما حذرن منه ، وفي قوله ( خيرا منكن ) تذكير لهن بأنهن ما اكتسبن التفضيل على النساء إلا من فضل زوجهن عند الله وإجراء الأوصاف المفصلة بعد الوصف المجمل وهو ( خيرا منكن ) للتنبيه على أن أصول التفضيل موجودة فيهن فيكون للائي يتزوجهن النبيء - صلى الله عليه وسلم - فضل على بقية النساء بأنهن صرن أزواجا للنبيء - صلى الله عليه وسلم - .

وهذه الآية إلى قوله ( خيرا منكن ) نزلت موافقة لقول عمر لابنته حفصة رضي الله عنهما مثل هذا اللفظ وهذا من القرآن الذي نزل وفاقا لقول عمر أو رأيه تنويها بفضله . وقد وردت في حديث في الصحيحين واللفظ للبخاري عن عمر قال : وافقت ربي في ثلاث : قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فنزلت ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) ، وقلت : يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فأنزل الله آية الحجاب . وبلغني معاتبة النبيء بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت : إن انتهيتن أو ليبدلن الله [ ص: 361 ] رسوله خيرا منكن فأنزل الله ( عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات ) الآية .

وهي موعظة بأن يأذن الله له بطلاقهن وأنه تصير له أزواج خير منهن .

وهذا إشارة إلى المعنى السادس عشر من مواعظ هذه الآي .

وقرأ الجمهور ( أن يبدله ) بتشديد الدال مضارع بدل . وقرأه يعقوب بتخفيف مضارع أبدل .

والمسلمات : المتصفات بالإسلام . والمؤمنات : المصدقات في نفوسهن . والقانتات : القائمات بالطاعة أحسن قيام . وتقدم القنوت في قوله تعالى ( وقوموا لله قانتين ) في سورة البقرة . وقوله ( ومن يقنت منكن لله ورسوله ) في سورة الأحزاب .

وفي هذا الوصف إشعار بأنهن مطيعات لله ورسوله ففيه تعريض لما وقع من تقصير إحداهن في ذلك فعاتبها الله وأيقظها للتوبة .

والتائبات : المقلعات عن الذنب إذا وقعن فيه . وفيه تعريض بإعادة التحريض على التوبة من ذنبهما التي أمرتا بها بقوله ( إن تتوبا إلى الله ) .

والعابدات : المقبلات على عبادة الله وهذه الصفات تفيد الإشارة إلى فضل هذه التقوى وهو المعنى السابع عشر من معاني العبرة في هذه الآيات .

والسائحات : المهاجرات وإنما ذكر هذا الوصف لتنبيههن على أنهن إن كن يمتن بالهجرة فإن المهاجرات غيرهن كثير ، والمهاجرات أفضل من غيرهن ، وهذه الصفة تشير إلى المعنى الثامن عشر من معاني الاعتبار في هذه الآي .

وهذه الصفات انتصبت على أنها نعوت ل ( أزواجا ) ، ولم يعطف بعضها على بعض بالواو ، لأجل التنصيص على ثبوت جميع تلك الصفات لكل واحدة منهن ولو عطفت بالواو لاحتمل أن تكون الواو للتقسيم ، أي تقسيم الأزواج إلى من يثبت لهن بعض تلك الصفات دون بعض ، ألا ترى أنه لما أريدت إفادة ثبوت إحدى صفتين دون أخرى من النعتين الواقعين بعد ذلك كيف عطف بالواو قوله [ ص: 362 ] ( وأبكارا ) لأن الثيبات لا يوصفن بأبكار . والأبكار لا يوصفن بالثيبات . قلت وفي قوله تعالى ( مسلمات ) ، إلى قوله ( سائحات ) محسن الكلام المتزن إذ يلتئم من ذلك بيت من بحر الرمل التام : فاعلتن فاعلتن فاعلتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلتن .

ووجه هذا التفصيل في الزوجات المقدرات لأن كلتا الصفتين محاسنها عند الرجال ; فالثيب أرعى لواجبات الزوج وأميل مع أهوائه وأقوم على بيته وأحسن لعابا وأبهى زينة وأحلى غنجا .

والبكر أشد حياء وأكثر غرارة ودلا وفي ذلك مجلبة للنفس ، والبكر لا تعرف رجلا قبل زوجها ففي نفوس الرجال خلق من التنافس في المرأة التي لم يسبق إليها غيرهم .

فما اعتزت واحدة من أزواج النبيء - صلى الله عليه وسلم - بمزية إلا وقد أنبأها الله بأن سيبدله خيرا منها في تلك المزية أيضا .

وهذا هو المعنى التاسع عشر من معاني الموعظة والتأديب في هذه الآيات .

وتقديم وصف ثيبات لأن أكثر أزواج النبيء - صلى الله عليه وسلم - لما تزوجهن كن ثيبات . ولعله إشارة إلى أن الملام الأشد موجه إلى حفصة قبل عائشة وكانت حفصة ممن تزوجهن ثيبات وعائشة هي التي تزوجها بكرا . وهذا التعريض أسلوب من أساليب التأديب كما قيل الحر تكفيه الإشارة .

وهذا هو المعنى العشرون من مغزى آداب هذه الآيات .

ومن غرائب المسائل الأدبية المتعلقة بهذه الآية أن الواو في قوله تعالى ( ثيبات وأبكارا ) زعمها ابن خالويه واوا لها استعمال خاص ولقبها بواو الثمانية بفتح المثلثة وتخفيف التحتية بعد النون وتبعه جماعة ذكروا منهم الحريري والثعلبي [ ص: 363 ] النيسابوري المفسر والقاضي الفاضل . أنهم استخرجوا من القرآن أن ما فيه معنى عدد ثمانية تدخل عليه واو ويظهر من الأمثلة التي مثلوا بها أنهم يعتبرون ما دل على أمر معدود بعدد كما فيه ، سواء كان وصفا مشتقا من عدد ثمانية أو كان ذاتا ثامنة أو كان يشتمل على ثمانية ، سواء كان مفردا أو كان جملة . فقد مثلوا بقوله تعالى في سورة ( براءة ) ( التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ) . قالوا لم يعطف الصفات المسرودة بالواو إلا عند البلوغ إلى الصفة الثامنة وهي الناهون عن المنكر . وجعلوا من هذا القبيل آية سورة التحريم إذ لم يعطف من الصفات المبدوءة بقوله مسلمات إلا الثامنة وهي ( وأبكارا ) ومثلوا لما فيه بوصف ثامن بقوله تعالى ( ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم ) في سورة الكهف . فلم يعطف ( رابعهم ) ولا ( سادسهم ) وعطفت الجملة التي وقع فيها وصف الثامن بواو عطف الجمل . ومثلوا لما فيه كلمة ثمانية بقوله تعالى ( سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما ) في سورة الحاقة . ومثلوا لما يشتمل على ثمانية أسماء بقوله تعالى في سورة الزمر ( وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها ) ، قالوا جاءت جملة ( وفتحت ) هذه بالواو ولم تجئ أختها المذكورة قبلها وهي ( وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها ) . لأن أبواب الجنة ثمانية .

وترددت كلماتهم في أن هذه الواو من صنف الواو العاطفة يمتاز عن الصنف الآخر يلزم ذكره إذا كان في المعطوف معنى الثامن أو من صنف الواو الزائدة .

وذكر الدماميني في الحواشي الهندية على المغني أنه رأى في تفسير العماد الكندي قاضي الإسكندرية المتوفى في نحو عشرين وسبعمائة نسبة القول بإثبات واو الثمانية إلى عبد الله الكفيف المالقي النحوي الغرناطي من علماء غرناطة في مدة الأمير ابن حبوس بموحدة بعد الحاء المهملة وهو باديس بن حبوس صاحب غرناطة سنة 420 .

وذكر السهيلي في الروض الأنف عند الكلام على نزول سورة الكهف أنه أفرد الكلام على الواو التي يسميها بعض الناس واو الثمانية بابا طويلا ولم يبد رأيه في إثباتها ولم أقف على الموضع الذي أفرد فيه الكلام عليها . ويظهر أنه غير موافق على [ ص: 364 ] إثبات هذا الاستعمال لها . ومن عجب الصدف ما اتفق في هذه الآيات الأربع من مثير شبهة للذين أثبتوا هذا المعنى في معاني الواو . ومن غريب الفطنة تنبه الذي أنبأ بهذا .

وذكر ابن المنير في الانتصاف أن شيخه ابن الحاجب ذكر له أن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني الكاتب كان يعتقد أن الواو في قوله تعالى ( وأبكارا ) وهي الواو التي سماها بعض ضعفة النحاة واو الثمانية . وكان الفاضل يتبجح باستخراجها زائدة على المواضع الثلاثة المشهورة إلى أن ذكره يوما بحضيرة أبي الجود النحوي المقري ، فبين لهم أنه واهم في عدها من ذلك القبيل وأحال البيان على المعنى الذي ذكره الزمخشري في دعاء اللزوم إلى الإتيان بالواو هنا لامتناع اجتماع هذين الصنفين في موصوف واحد . فأنصفه الفاضل وقال : أرشدتنا يا أبا الجود .

قلت : وأرى أن القاضي الفاضل تعجل التسليم لأبي الجود إذ كان له أن يقول : إنا لم نلتزم أن يكون المعدود الثامن مستقلا أو قسيما لغيره وإنما تتبعنا ما فيه إشعار بعدد ثمانية .

ونقل الطيبي والقزويني في حاشيتي الكشاف أنه روى عن صاحب الكشاف أنه قال : الواو تدخل في الثامن كقوله تعالى ( وثامنهم كلبهم ) ، وقوله ( وفتحت أبوابها ) ويسمونه واو الثمانية وهي كذلك ، وليس بشيء . قال الراوي عنه وقد قال لنا عند قراءة هذا الموضع : أنسيتم واو الثمانية عند جوابي هذا ( أي يلومهم على إهمالهم ذلك المعنى في تلك الآية ) أي هو جواب حسن وذلك خطأ محض لا يجوز أن يؤخذ به اهـ .

قلت : وهذا يخالف صريح كلامه في الكشاف فلعل الراوي لم يحسن تحرير مراد صاحب الكشاف ، أو لعل صاحب الكشاف لم ير منافاة بين لزوم ذكر الواوين اقتضاء المقام ذكرها بأن المعطوف بها ثامن في الذكر فإن النكت لا تتزاحم فتأمل بتدقيق .

وتقدم الكلام على واو الثمانية عند قوله تعالى ( التائبون العابدون ) الآية في سورة ( براءة ) . وعند قوله ( ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم ) في سورة الكهف ، وتقدمت في سورة الزمر وفي سورة الحاقة .

التالي السابق


الخدمات العلمية