الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( فواكه وهم مكرمون ( 42 ) في جنات النعيم ( 43 ) على سرر متقابلين ( 44 ) يطاف عليهم بكأس من معين ( 45 ) بيضاء لذة للشاربين ( 46 ) لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون ( 47 ) ) [ ص: 36 ] قوله ( فواكه ) ردا على الرزق المعلوم تفسيرا له ، ولذلك رفعت وقوله ( وهم مكرمون ) يقول : وهم مع الذي لهم من الرزق المعلوم في الجنة ، مكرمون بكرامة الله التي أكرمهم الله بها

( في جنات النعيم ) يعني : في بساتين النعيم

( على سرر متقابلين ) يعني : أن بعضهم يقابل بعضا ، ولا ينظر بعضهم في قفا بعض . وقوله ( يطاف عليهم بكأس من معين ) يقول - تعالى ذكره - : يطوف الخدم عليهم بكأس من خمر جارية ظاهرة لأعينهم غير غائرة .

كما حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( يطاف عليهم بكأس من معين ) قال : كأس من خمر جارية ، والمعين : هي الجارية .

حدثنا محمد بن بشار قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا سفيان ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم ، في قوله ( بكأس من معين ) قال : كل كأس في القرآن فهو خمر .

حدثنا ابن بشار قال : ثنا عبد الله بن داود ، عن سلمة بن نبيط ، عن الضحاك بن مزاحم قال : كل كأس في القرآن فهو خمر

حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، في قوله ( بكأس من معين ) قال : الخمر . والكأس عند العرب : كل إناء فيه شراب ، فإن لم يكن فيه شراب لم يكن كأسا ، ولكنه يكون إناء .

وقوله ( بيضاء لذة للشاربين ) يعني بالبيضاء : الكأس ، ولتأنيث الكأس أنثت البيضاء ، ولم يقل أبيض ، وذكر أن ذلك في قراءة عبد الله : صفراء .

حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، في قوله ( بيضاء ) قال السدي : في قراءة عبد الله : صفراء [ ص: 37 ] وقوله ( لذة للشاربين ) يقول : هذه الخمر لذة يلتذها شاربوها .

وقوله ( لا فيها غول ) يقول : لا في هذه الخمر غول ، وهو أن تغتال عقولهم : يقول : لا تذهب هذه الخمر بعقول شاربيها كما تذهب بها خمور أهل الدنيا إذا شربوها فأكثروا منها ، كما قال الشاعر :


وما زالت الكأس تغتالنا وتذهب بالأول الأول



والعرب تقول : ليس فيها غيلة وغائلة وغول . بمعنى واحد ، ورفع غول ولم ينصب بلا لدخول حرف الصفة بينها وبين الغول ، وكذلك تفعل العرب في التبرئة إذا حالت بين لا والاسم بحرف من حروف الصفات - رفعوا الاسم ولم ينصبوه ، وقد يحتمل قوله ( لا فيها غول ) أن يكون معنيا به : ليس فيها ما يؤذيهم من مكروه ، وذلك أن العرب تقول للرجل يصاب بأمر مكروه ، أو ينال بداهية عظيمة : غال فلانا غول . وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : ليس فيها صداع .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله ( لا فيها غول ) يقول : ليس فيها صداع .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ليس فيها أذى فتشكى منه بطونهم .

[ ص: 38 ] ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( لا فيها غول ) قال : هي الخمر ليس فيها وجع بطن .

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قوله ( لا فيها غول ) قال : وجع بطن .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( لا فيها غول ) قال : الغول ما يوجع البطون ، وشارب الخمر هاهنا يشتكي بطنه .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( لا فيها غول ) يقول : ليس فيها وجع بطن ، ولا صداع رأس .

وقال آخرون : معنى ذلك : أنها لا تغول عقولهم .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد قال : ثنا أسباط ، عن السدي ( لا فيها غول ) قال : لا تغتال عقولهم .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ليس فيها أذى ولا مكروه .

ذكر من قال ذلك :

حدثت عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن إسرائيل ، عن سالم الأفطس ، عن سعيد بن جبير ، في قوله ( لا فيها غول ) قال : أذى ولا مكروه .

حدثنا محمد بن سنان القزاز قال : ثنا عبد الله بن يزيعة قال : أخبرنا إسرائيل ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : ( لا فيها غول ) قال : ليس فيها أذى ولا مكروه .

[ ص: 39 ] وقال آخرون : بل معنى ذلك : ليس فيها إثم .

ولكل هذه الأقوال التي ذكرناها وجه ، وذلك أن الغول في كلام العرب : هو ما غال الإنسان فذهب به ، فكل من ناله أمر يكرهه ضربوا له بذلك المثل ، فقالوا : غالت فلانا غول . فالذاهب العقل من شرب الشراب ، والمشتكي البطن منه ، والمصدع الرأس من ذلك ، والذي ناله منه مكروه - كلهم قد غالته غول .

فإذا كان ذلك كذلك ، وكان الله - تعالى ذكره - قد نفى عن شراب الجنة أن يكون فيه غول ، فالذي هو أولى بصفته أن يقال فيه كما قال - جل ثناؤه - ( لا فيها غول ) فيعم بنفي كل معاني الغول عنه ، وأعم ذلك أن يقال : لا أذى فيها ولا مكروه على شاربيها في جسم ولا عقل ، ولا غير ذلك .

واختلفت القراء في قراءة قوله ( ولا هم عنها ينزفون ) فقرأته عامة قراء المدينة والبصرة وبعض قراء الكوفة ( ينزفون ) بفتح الزاي ، بمعنى : ولا هم عن شربها تنزف عقولهم . وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة : " ولا هم عنها ينزفون " بكسر الزاي ، بمعنى : ولا هم عن شربها ينفد شرابهم .

والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان معروفتان صحيحتا المعنى غير مختلفتيه ، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب ، وذلك أن أهل الجنة لا ينفد شرابهم ، ولا يسكرهم شربهم إياه ، فيذهب عقولهم .

واختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معناه : لا تذهب عقولهم .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي قال : ثنا أبو صالح قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ( ولا هم عنها ينزفون ) يقول : لا تذهب عقولهم .

حدثني محمد بن سعد قال : ثني أبي قال : ثني عمي قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( ولا هم عنها ينزفون ) قال : لا تنزف فتذهب [ ص: 40 ] عقولهم .

حدثني محمد بن عمرو قال : ثنا أبو عاصم قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( ولا هم عنها ينزفون ) قال : لا تذهب عقولهم .

حدثنا محمد بن الحسين قال : ثنا أحمد بن المفضل قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، في قوله ( ولا هم عنها ينزفون ) قال : لا تنزف عقولهم .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله ( ولا هم عنها ينزفون ) قال : لا تنزف العقول .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ولا هم عنها ينزفون ) قال : لا تغلبهم على عقولهم .

وهذا التأويل الذي ذكرناه عمن ذكرنا عنه لم تفصل لنا رواته القراءة الذي هذا تأويلها ، وقد يحتمل أن يكون ذلك تأويل قراءة من قرأها ينزفون وينزفون كلتيهما ، وذلك أن العرب تقول : قد نزف الرجل فهو منزوف : إذا ذهب عقله من السكر ، وأنزف فهو منزف ، محكية عنهم اللغتان كلتاهما في ذهاب العقل من السكر ، وأما إذا فنيت خمر القوم فإني لم أسمع فيه إلا أنزف القوم بالألف .

ومن الإنزاف بمعنى : ذهاب العقل من السكر - قول الأبيرد :


لعمري لئن أنزفتموا أو صحوتم     لبئس الندامى كنتم آل أبجرا



التالي السابق


الخدمات العلمية