الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن .

معطوفة على جملة ( واللائي لم يحضن ) فهي إتمام لأحوال العدة المجمل في قوله تعالى ( وأحصوا العدة ) وتقدير الكلام : ( وأولات الأحمال منهن ) ، أي من المطلقات أجلهن أن يضعن حملهن .

فحصل بهذه الآية مع التي قبلها تفصيل لأحوال المطلقات وحصل أيضا منها بيان لإجمال الآية التي في سورة البقرة .

( وأولات ) اسم جمع لذات بمعنى : صاحبة . وذات : مؤنث ذو ، بمعنى : صاحب . ولا مفرد ل ( أولات ) من لفظه كما لا مفرد للفظ ( أولوا ) و ( أولات ) مثل ذوات كما أن أولو مثل ذوو . ويكتب ( أولات ) بواو بعد الهمزة في الرسم تبعا لكتابة لفظ ( أولو ) بواو بعد الهمزة لقصد التفرقة في الرسم بين أولي في حالة [ ص: 320 ] النصب والجر وبين حرف ( إلى ) . وليتهم قصروا كتابته بواو بعد الهمزة على لفظ أولي المذكر المنصوب أو المجرور وتركوا التكلف في غيرهما .

وجعلت عدة المطلقة الحامل منهاة بوضع الحمل لأنه لا أدل على براءة الرحم منه ، إذ الغرض الأول من العدة تحقق براءة الرحم من ولد للمطلق أو ظهور اشتغال الرحم بجنين له . وضم إلى ذلك غرض آخر وهو ترقب ندم المطلق وتمكينه من تدارك أمره بالمراجعة ، فلما حصل الأهم ألغي ما عداه رعيا لحق المرأة في الانطلاق من حرج الانتظار ، على أن الحمل قد يحصل بالقرب من الطلاق فألغي قصد الانتظار تعليلا بالغالب دون النادر ، خلافا لمن قال في المتوفى عنها : عليها أقصى الأجلين وهو منسوب إلى علي بن أبي طالب وابن العباس .

وبهذا التفسير لا تتعارض هذه الآية مع آية عدة المتوفى عنها التي في سورة البقرة ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) لأن تلك في واد وهذه في واد ، تلك شأن المتوفى عنهن وهذه في شأن المطلقات .

ولكن لما كان أجل أربعة أشهر وعشر للمتوفى عنها منحصرة حكمته في تحقق براءة رحم امرأة المتوفى من ولد له إذ لا فائدة فيه غير ذلك ولا يتوهم أن الشريعة جعلت ذلك لغرض الحزن على الزوج المتوفى للقطع بأن هذا مقصد جاهلي ، وقد دلت الشريعة في مواضع على إبطاله والنهي عنه في تصاريف كثيرة كما بيناه في تفسير قوله تعالى ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن ) إلخ في سورة البقرة .

وقد علمنا أن وضع الحمل غاية لحصول هذا المقصد نجم من جهة المعنى أن المتوفى عنها الحامل إذا وضعت حملها تخرج من عدة وفاة زوجها ولا تقضي أربعة أشهر وعشرا كما أنها لو كان أمد حملها أكثر من أربعة أشهر وعشر لا تقتصر على الأربعة الأشهر وعشر إذ لا حكمة في ذلك .

من أجل ذلك كانت الآية دالة على أن عدة الحامل وضع حملها سواء كانت معتدة من طلاق أم كانت معتدة في وفاة .

[ ص: 321 ] ومن أجل ذلك قال جمهور أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم : إن عدة الحامل المتوفى عنها كعدتها من الطلاق وضع حملها غير أن أقوالهم تدل على أن بينهم من كانوا يرون في تعارض العمومين أن العام المتأخر منهما ينسخ العام الآخر وهي طريقة المتقدمين .

روى أهل الصحيح أن عبد الله بن مسعود لما بلغه أن علي بن أبي طالب قال في عدة الحامل المتوفى عنها : إن عليها أقصى الأجلين ( أي أجل وضع الحمل وأجل الأربعة الأشهر والعشر ) قال ابن مسعود : لنزلت سورة النساء القصرى أي سورة الطلاق بعد الطولى أي بعد طولى السور وهي البقرة ، أي ليست آية سورة البقرة بناسخة لما في آية سورة الطلاق . ( ويعضدهم خبر سبيعة بنت الحارث الأسلمية توفي زوجها سعد بن خولة في حجة الوداع بمكة وتركها حاملا فوضعت بعد وفاته بخمس عشرة ليلة وقيل بأربعين ليلة . فاستأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التزوج فقال لها : قد حللت فانكحي إن شئت . روته أم سلمة أم المؤمنين وقبله معظم الصحابة الذين بلغهم . وتلقاه الفقهاء بعدهم بالقبول ويشهد له بالمعنى والحكمة كما تقدم آنفا .

واختلف المتأخرون من أهل الأصول في وجه العمل في تعارض عمومين كل واحد منهما عام من وجه مثل هاتين الآيتين فالجمهور درجوا على ترجيح أحدهما بمرجح والحنفية جعلوا المتأخر من العمودين ناسخا للمتقدم . فقوله ( وأولات الأحمال ) لأن الموصول من صيغ العموم فيعم كل حامل معتدة سواء كانت في عدة الطلاق أو في عدة وفاة ، وقوله ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا تعم كل امرأة تركها الميت سواء كانت حاملا أو غير حامل ، لأن ( أزواجا ) نكرة وقعت مفعول الصلة وهي ( يذرون ) المشتملة على ضمير الموصول الذي هو عام فمفعوله تبع له في عمومه فيشمل المتوفى عنهن الحوامل وهن ممن شملهن عموم ( أولات الأحمال ) فتعارض العمومان كل من وجه ، فآية ( وأولات الأحمال ) اقتضت أن الحوامل كلهن تنتهي عدتهن بالوضع وقد يكون الوضع قبل الأربعة الأشهر والعشر ، وآية البقرة يقتضي عمومها أن المتوفى عنهن يتربصن أربعة أشهر وعشرا . وقد يتأخر هذا الأجل عن وضع الحمل .

[ ص: 322 ] فذهب الجمهور إلى ترجيح عموم ( وأولات الأحمال ) على عموم ( ويذرون أزواجا ) من وجوه .

أحدها : أن عموم ( وأولات الأحمال ) حاصل بذات اللفظ لأن الموصول مع صلته من صيغ العموم ، وأما قوله ( ويذرون أزواجا ) فإن ( أزواجا ) نكرة في سياق الإثبات فلا عموم لها في لفظها وإنما عرض لها العموم تبعا لعموم الموصول العامل فيها وما كان عمومه بالذات أرجح مما كان عمومه بالعرض .

وثانيها : أن الحكم في عموم ( وأولات الأحمال ) علق بمدلول صلة الموصول وهي مشتق ، وتعليق الحكم بالمشتق يؤذن بتعليل ما اشتق منه بخلاف العموم الذي في سورة البقرة ، فما كان عمومه معللا بالوصف أرجح في العمل مما عمومه غير معلل .

وثالثها : قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عدة سبيعة الأسلمية .

وذهب الحنفية إلى أن عموم ( وأولات الأحمال ) ناسخ لعموم قوله ( ويذرون أزواجا ) في مقدار ما تعارضا فيه .

ومآل الرأيين واحد هو أن عدة الحامل وضع حملها سواء كانت معتدة من طلاق أم من وفاة زوجها .

والصحيح أن آية البقرة لم يرتفع حكمها وشذ القائلون بأن المتوفى عنها إن لم تكن حاملا ووضعت حملها يجب عليها عدة أربعة أشهر وعشرا .

وقال قليل من أهل العلم بالجمع بين الآيتين بما يحقق العمل بهما معا فأوجبوا على الحامل المتوفى عنها زوجها الاعتداد بالأقصى من الأجلين أجل الأربعة الأشهر والعشر وأجل وضع الحمل ، وهو قول علي بن أبي طالب وابن عباس . وقصدهم من ذلك الاحتياط لأنه قد تأتى لهم هنا إذ كان التعارض في مقدار زمنين فأمكن العمل بأوسعهما الذي يتحقق فيه الآخر وزيادة فيصير معنى هذه الآية ( أولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) ما لم تكن في عدة وفاة ويكون معنى آية سورة البقرة وأزواج المتوفين يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ما لم تكن حوامل فيزدن تربصا إلى وضع الحمل . ولا يجوز تخصيص عموم [ ص: 323 ] ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) بما في آية ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) من خصوص بالنظر إلى الحوامل المتوفى عنهن ، إذ لا يجوز أن تنتهي عدة الحامل المتوفى عنها التي مضت عليها أربعة أشهر وعشر قبل وضع حملها من عدة زوجها ، وهي في حالة حمل لأن ذلك مقرر بطلانه من عدة أدلة في الشريعة لا خلاف فيها وإلى هذا ذهب ابن أبي ليلى .

وفي صحيح البخاري عن محمد بن سيرين قال : كنت في حلقة فيها عظم من الأنصار أي بالكوفة وفيهم عبد الرحمن بن أبي ليلى وكان أصحابه يعظونه فذكر آخر الأجلين ، فحدثت حديث عبد الله بن عتبة في شأن سبيعة بنت الحارث فقال عبد الرحمن لكن عمه أي عم عتبة وهو عبد الله بن مسعود كان لا يقول ذلك أي لم يحدثنا به فقلت : إني إذن لجريء إن كذبت على رجل في جانب الكوفة وكان عبد الله بن عتبة ساكنا بظاهر الكوفة فخرجت فلقيت عامرا أو مالك بن عوف فقلت : كيف كان قول ابن مسعود في المتوفى عنها زوجها وهي حامل ، فقال : قال : ابن مسعود : أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون لها الرخصة لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى ( أي البقرة ) .

وفي البخاري عن أبي سلمة جاء رجل إلى ابن عباس وأبو هريرة جالس عنده فقال : أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة فقال ابن عباس : آخر الأجلين . فقلت أنا ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) . قال أبو هريرة : أنا مع ابن أخي أي مع أبي سلمة فأرسل ابن عباس كريبا إلى أم سلمة يسألها فقالت : قتل - ( كذا والتحقيق أنه مات في حجة الوداع ) - زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى فوضعت بعد موته بأربعين ليلة فخطبت فأنكحها رسول الله . وقد قال بعضهم : إن ابن عباس رجع عن قوله . ولم يذكر رجوعه في حديث أبي سلمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية