الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب .

اعتراض بين جملة ( وأقيموا الشهادة ) وجملة ( واللائي يئسن من المحيض ) الآية ، فإن تلك الأحكام لما اعتبرت موعظة بقوله ( ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ) أعقب ذلك بقضية عامة ، وهي أن تلك من تقوى الله تعالى وبما لتقوى الله من خير في الدنيا والآخرة على عادة القرآن من تعقيب الموعظة والترهيب بالبشارة والترغيب .

ولما كان أمر الطلاق غير خال من حرج وغم يعرض للزوجين وأمر المراجعة لا يخلو في بعض أحواله من تحمل أحدهما لبعض الكره من الأحوال التي سببت الطلاق ، أعلمهما الله بأنه وعد المتقين الواقفين عند حدوده أن يجعل لهم مخرجا من الضائقات ، شبه ما هم فيه من الحرج بالمكان المغلق على الحال فيه وشبه ما يمنحهم الله به من اللطف وإجراء الأمور على ما يلائم أحوالهم بجعل منفذ في المكان المغلق يتخلص منه المتضائق فيه .

ففي الكلام استعارتان إحداهما ضمنية مطوية والأخرى صريحة وشمل المخرج ما يحف من اللطف بالمتقين في الآخرة أيضا بتخليصهم من أهوال الحساب والانتظار فالمخرج لهم في الآخرة هو الإسراع بهم إلى النعيم .

[ ص: 312 ] ولما كان من دواعي الفراق والخلاف بين الزوجين ما هو من التقتير في الإنفاق لضيق ذات اليد فكان الإحجام عن المراجعة عارضا كثيرا للناس بعد التطليق ، أتبع الوعد بجعل المخرج للمتقين بالوعد بمخرج خاص وهو مخرج التوسعة في الرزق .

وقوله ( من حيث لا يحتسب ) احتراس لئلا يتوهم أحد أن طرق الرزق معطلة عليه فيستبعد ذلك فيمسك عن مراجعة المطلقة لأنه لا يستقبل مالا ينفق منه ، فأعلمه الله أن هذا الرزق لطف من الله والله أعلم كيف يهيئ له أسبابا غير مترقبة .

فمعنى ( من حيث لا يحتسب ) : من مكان لا يحتسب منه الرزق أي لا يظن أنه يرزق منه .

و ( حيث ) مستعملة مجازا في الأحوال والوجوه تشبيها للأحوال بالجهات لأنها لما جعلت مقارنة للرزق أشبهت المكان الذي يرد منه الوارد ولذلك كانت من هنا للابتداء المجازي تبعا لاستعارة حيث . ففي حرف ( من ) استعارة تبعية . وذكر الواحدي في أسباب النزول أنها نزلت في شأن عوف بن مالك الأشجعي إذ أسر المشركون ابنه سالما فأتى عوف النبيء - صلى الله عليه وسلم - وشكا إليه ذلك وأن أمه جزعت فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اتق الله واصبر وأمره وزوجه أن يكثرا قول لا حول ولا قوة إلا بالله فغفل المشركون عن الابن فساق عنزا كثيرة من عنز المشركين وجاء بها المدينة فنزلت الآية ، فيجوز أن يكون نزولها في أثناء نزول هذه السورة فصادفت الغرضين ، ويكون ذلك من قبيل معجزات القرآن .

التالي السابق


الخدمات العلمية