الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 528 ] القول في تأويل قوله تعالى ( ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون ( 49 ) فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ( 50 ) )

يقول - تعالى ذكره - : ما ينتظر هؤلاء المشركون الذين يستعجلون بوعيد الله إياهم ، إلا صيحة واحدة تأخذهم ، وذلك نفخة الفزع عند قيام الساعة .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وجاءت الآثار .

ذكر من قال ذلك ، وما فيه من الأثر : حدثنا ابن بشار قال : ثنا ابن أبي عدي ، ومحمد بن جعفر ، قالا ثنا عوف بن أبي جميلة ، عن أبي المغيرة القواس ، عن عبد الله بن عمرو قال : لينفخن في الصور ، والناس في طرقهم وأسواقهم ومجالسهم ، حتى إن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومان ، فما يرسله أحدهما من يده حتى ينفخ في الصور ، وحتى إن الرجل ليغدو من بيته فلا يرجع حتى ينفخ في الصور ، وهي التي قال الله ( ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ) . . . الآية " .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون ) ذكر لنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : " تهيج الساعة بالناس والرجل يسقي ماشيته ، والرجل يصلح حوضه ، والرجل يقيم سلعته في سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه ، وتهيج بهم وهم كذلك ، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون " .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( ما ينظرون إلا صيحة واحدة ) قال : النفخة نفخة واحدة .

حدثنا أبو كريب قال : ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن إسماعيل بن رافع ، عمن ذكره ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن أبي هريرة ، [ ص: 529 ] قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله لما فرغ من خلق السماوات والأرض خلق الصور ، فأعطاه إسرافيل ، فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ينتظر متى يؤمر ، قال أبو هريرة : يا رسول الله : وما الصور؟ قال : قرن قال : وكيف هو؟ قال : قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات ، الأولى نفخة الفزع ، والثانية نفخة الصعق ، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين ، يأمر الله إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول : انفخ نفخة الفزع ، فيفزع أهل السماوات وأهل الأرض إلا من شاء الله ، ويأمره الله فيديمها ويطولها ، فلا يفتر ، وهي التي يقول الله ( وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ما لها من فواق ) ثم يأمر الله إسرافيل بنفخة الصعق ، فيقول : انفخ نفخة الصعق ، فيصعق أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله ، فإذا هم خامدون ، ثم يميت من بقي ، فإذا لم يبق إلا الله الواحد الصمد ، بدل الأرض غير الأرض والسماوات ، فيبسطها ويسطحها ، ويمدها مد الأديم العكاظي ، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، ثم يزجر الله الخلق زجرة ، فإذا هم في هذه المبدلة في مثل مواضعهم من الأولى ما كان في بطنها كان في بطنها ، وما كان على ظهرها كان على ظهرها " .

واختلفت القراء في قراءة قوله ( وهم يخصمون ) فقرأ ذلك بعض قراء المدينة : ( وهم يخصمون ) بسكون الخاء وتشديد الصاد ، فجمع بين الساكنين ، بمعنى : يختصمون ، ثم أدغم التاء في الصاد فجعلها صادا مشددة ، وترك الخاء على سكونها في الأصل . وقرأ ذلك بعض المكيين والبصريين : ( وهم يخصمون ) بفتح الخاء وتشديد الصاد بمعنى : يختصمون ، غير أنهم نقلوا حركة التاء وهي الفتحة التي في يفتعلون إلى الخاء منها ، فحركوها بتحريكها ، وأدغموا التاء في الصاد وشددوها . وقرأ ذلك بعض قراء الكوفة : ( يخصمون ) بكسر الخاء وتشديد الصاد ، فكسروا الخاء بكسر الصاد وأدغموا التاء في الصاد وشددوها . وقرأ ذلك آخرون منهم : ( يخصمون ) بسكون الخاء وتخفيف الصاد ، بمعنى ( يفعلون ) من الخصومة ، وكأن معنى قارئ ذلك كذلك : كأنهم يتكلمون ، [ ص: 530 ] أو يكون معناه عنده : كان وهم عند أنفسهم يخصمون من وعدهم مجيء الساعة ، وقيام القيامة ، ويغلبونه بالجدل في ذلك .

والصواب من القول في ذلك عندنا أن هذه قراءات مشهورات معروفات في قراء الأمصار ، متقاربات المعاني ، فبأيتهن قرأ القارئ فمصيب .

وقوله ( فلا يستطيعون توصية ) يقول - تعالى ذكره - : فلا يستطيع هؤلاء المشركون عند النفخ في الصور أن يوصوا في أموالهم أحدا ( ولا إلى أهلهم يرجعون ) يقول : ولا يستطيع من كان منهم خارجا عن أهله أن يرجع إليهم ، لأنهم لا يمهلون بذلك . ولكن يعجلون بالهلاك .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( فلا يستطيعون توصية ) أي : فيما في أيديهم ( ولا إلى أهلهم يرجعون ) قال : أعجلوا عن ذلك .

حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله ( وما ينظر هؤلاء إلا صيحة واحدة ) . . . الآية قال : هذا مبتدأ يوم القيامة ، وقرأ ( فلا يستطيعون توصية ) حتى بلغ ( إلى ربهم ينسلون ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية