الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 503 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون ( 19 ) وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين ( 20 ) اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ( 21 ) )

يقول - تعالى ذكره - : قالت الرسل لأصحاب القرية ( طائركم معكم أئن ذكرتم ) يقولون : أعمالكم وأرزاقكم وحظكم من الخير والشر معكم ، ذلك كله في أعناقكم ، وما ذلك من شؤمنا إن أصابكم سوء فيما كتب عليكم ، وسبق لكم من الله .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، ( قالوا طائركم معكم ) أي : أعمالكم معكم .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس ، وعن كعب ، وعن وهب بن منبه ، قالت لهم الرسل ( طائركم معكم ) أي : أعمالكم معكم .

وقوله ( أئن ذكرتم ) اختلفت القراءة في قراءة ذلك ; فقرأته عامة قراء الأمصار ( أئن ذكرتم ) بكسر الألف من " إن " وفتح ألف الاستفهام : بمعنى إن ذكرناكم فمعكم طائركم ، ثم أدخل على " إن " التي هي حرف جزاء ألف استفهام في قول بعض نحويي البصرة ، وفي قول بعض الكوفيين منوي به التكرير ، كأنه قيل : طائركم معكم إن ذكرتم فمعكم طائركم ، فحذف الجواب اكتفاء بدلالة الكلام عليه . وإنما أنكر قائل هذا القول القول الأول ، لأن ألف الاستفهام قد حالت بين الجزاء وبين الشرط ، فلا تكون شرطا لما قبل حرف الاستفهام . وذكر عن أبي رزين أنه قرأ ذلك ( أئن ذكرتم ) بمعنى : ألأن ذكرتم طائركم معكم؟ . وذكر عن بعض قارئيه أنه قرأه ( قالوا طائركم معكم أين ذكرتم ) بمعنى : حيث ذكرتم بتخفيف الكاف من ذكرتم .

والقراءة التي لا نجيز القراءة بغيرها القراءة التي عليها قراء الأمصار ، وهي دخول [ ص: 504 ] ألف الاستفهام على حرف الجزاء ، وتشديد الكاف على المعنى الذي ذكرناه عن قارئيه كذلك ، لإجماع الحجة من القراء عليه .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( أئن ذكرتم ) أي : إن ذكرناكم الله تطيرتم بنا؟ ( بل أنتم قوم مسرفون ) .

وقوله ( بل أنتم قوم مسرفون ) يقول : قالوا لهم : ما بكم التطير بنا ، ولكنكم قوم أهل معاص لله وآثام ، قد غلبت عليكم الذنوب والآثام .

وقوله ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى ) يقول : وجاء من أقصى مدينة هؤلاء القوم الذين أرسلت إليهم هذه الرسل رجل يسعى إليهم ; وذلك أن أهل المدينة هذه عزموا ، واجتمعت آراؤهم على قتل هؤلاء الرسل الثلاثة فيما ذكر ، فبلغ ذلك هذا الرجل ، وكان منزله أقصى المدينة ، وكان مؤمنا ، وكان اسمه فيما ذكر " حبيب بن مري " .

وبنحو الذي قلنا في ذلك جاءت الأخبار .

ذكر الأخبار الواردة بذلك :

حدثنا محمد بن بشار قال : ثنا مؤمل بن إسماعيل قال : ثنا سفيان ، عن عاصم الأحول ، عن أبي مجلز قال : كان صاحب يس " حبيب بن مري " .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة قال : كان من حديث صاحب يس فيما حدثنا محمد بن إسحاق فيما بلغه ، عن ابن عباس ، وعن كعب الأحبار ، وعن وهب بن منبه اليماني أنه كان رجلا من أهل أنطاكية ، وكان اسمه " حبيبا " وكان يعمل الجرير ، وكان رجلا سقيما ، قد أسرع فيه الجذام ، وكان منزله عند باب من أبواب المدينة قاصيا ، وكان مؤمنا ذا صدقة ، يجمع كسبه إذا أمسى فيما يذكرون ، فيقسمه نصفين ، فيطعم نصفا عياله ، ويتصدق بنصف ، فلم يهمه [ ص: 505 ] سقمه ولا عمله ولا ضعفه ، عن عمل ربه قال : فلما أجمع قومه على قتل الرسل ، بلغ ذلك " حبيبا " وهو على باب المدينة الأقصى ، فجاء يسعى إليهم يذكرهم بالله ، ويدعوهم إلى اتباع المرسلين ، فقال ( يا قوم اتبعوا المرسلين ) حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن عمرو بن حزم أنه حدث عن كعب الأحبار قال : ذكر له حبيب بن زيد بن عاصم أخو بني مازن بن النجار الذي كان مسيلمة الكذاب قطعه باليمامة حين جعل يسأله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فجعل يقول : أتشهد أن محمدا رسول الله؟ فيقول : نعم ، ثم يقول : أتشهد أني رسول الله؟ فيقول له : لا أسمع ، فيقول مسيلمة : أتسمع هذا ، ولا تسمع هذا؟ فيقول : نعم ، فجعل يقطعه عضوا عضوا ، كلما سأله لم يزده على ذلك حتى مات في يديه ، قال كعب حين قيل له اسمه " حبيب " : وكان والله صاحب يس اسمه " حبيب " .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم بن عتيبة ، عن مقسم أبي القاسم مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عباس أنه كان يقول : كان اسم صاحب يس " حبيبا " وكان الجذام قد أسرع فيه .

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى ) قال : ذكر لنا أن اسمه " حبيب " ، وكان في غار يعبد ربه ، فلما سمع بهم أقبل إليهم . وقوله ( قال يا قوم اتبعوا المرسلين ) يقول - تعالى ذكره - : قال الرجل الذي جاء من أقصى المدينة لقومه : يا قوم اتبعوا المرسلين الذين أرسلهم الله إليكم ، واقبلوا منهم ما أتوكم به .

وذكر أنه لما أتى الرسل سألهم : هل يطلبون على ما جاءوا به أجرا؟ فقالت الرسل : لا فقال لقومه حينئذ : اتبعوا من لا يسألكم على نصيحتهم لكم أجرا [ ص: 506 ] .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قال : لما انتهى إليهم - يعني إلى الرسل - قال : هل تسألون على هذا من أجر؟ قالوا : لا فقال عند ذلك ( يا قوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ) .

حدثنا ابن حميد قال : ثنا سلمة ، عن ابن إسحاق فيما بلغه ، عن ابن عباس ، وعن كعب الأحبار ، وعن وهب بن منبه ( اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ) أي : لا يسألونكم أموالكم على ما جاءوكم به من الهدى ، وهم لكم ناصحون ، فاتبعوهم تهتدوا بهداهم . وقوله ( وهم مهتدون ) يقول : وهم على استقامة من طريق الحق ، فاهتدوا أيها القوم بهداهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية