الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                      صفحة جزء
                                                                      باب في مقدار الماء الذي يجزئ في الغسل

                                                                      238 حدثنا عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من إناء واحد هو الفرق من الجنابة قال أبو داود وروى ابن عيينة نحو حديث مالك قال أبو داود قال معمر عن الزهري في هذا الحديث قالت كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد فيه قدر الفرق قال أبو داود سمعت أحمد بن حنبل يقول الفرق ستة عشر رطلا وسمعته يقول صاع ابن أبي ذئب خمسة أرطال وثلث قال فمن قال ثمانية أرطال قال ليس ذلك بمحفوظ قال و سمعت أحمد يقول من أعطى في صدقة الفطر برطلنا هذا خمسة أرطال وثلثا فقد أوفى قيل الصيحاني ثقيل قال الصيحاني أطيب قال لا أدري [ ص: 311 ]

                                                                      التالي السابق


                                                                      [ ص: 311 ] باب مقدار الماء الذي يجزئ به الغسل

                                                                      وفي بعض النسخ يجزيه في الغسل أي يجزي الغاسل .

                                                                      ( هو الفرق ) : بفتح الفاء وفتح الراء وإسكانها لغتان حكاهما ابن دريد وجماعة والفتح أفصح . وزعم الباجي أنه الصواب ، وليس كما قال بل هما لغتان ، قاله النووي . وقال الحافظ وقال ابن التين : الفرق بتسكين الراء ورويناه بفتحها ، وجوز بعضهم الأمرين . وقال القعنبي وغيره : هو بالفتح ، والمحدثون يسكنونه وكلام العرب بالفتح انتهى ، ويجيء تفسير الفرق مشروحا من الجنابة أي بسبب الجنابة ( وروى ابن عيينة نحو حديث مالك ) والحاصل أن مالك بن أنس وسفيان بن عيينة كلاهما قالا عن الزهري بتوقيت وتحديد وهو الغسل من الفرق ، وقال معمر : بلا توقيت وهو قدر الفرق . واعلم أنه ليس الغسل بالصاع أو الفرق للتحديد والتقدير بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما اقتصر على الصاع وربما زاد عليه ، والقدر المجزي من الغسل ما يحصل به تعميم البدن على الوجه المعتبر سواء كان صاعا أو أقل أو أكثر ما لم يبلغ في النقصان إلى مقدار لا يسمى مستعمله مغتسلا أو إلى مقدار في الزيادة يدخل فاعله في حد الإسراف ( يقول : الفرق ستة عشر رطلا ) : الرطل معيار يوزن به وكسره أفصح من فتحه ، وهو بالبغدادي اثنتا عشرة أوقية ، والأوقية إستار وثلثا إستار ، والإستار أربعة مثاقيل ونصف مثقال ، والمثقال درهم وثلاثة أسباع درهم ، والدرهم ستة دوانيق ، والدانق ثماني حبات وخمسا حبة ، وعلى هذا فالرطل تسعون مثقالا وهي مائة درهم وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم ، كذا في المصباح . وقال الجوهري : الفرق مكيال معروف بالمدينة وهو ستة عشر رطلا وفي صحيح [ ص: 312 ] مسلم في آخر رواية ابن عيينة عن الزهري قال سفيان يعني ابن عيينة : الفرق ثلاثة آصع . قال النووي : وكذا قال الجماهير ، وقيل : الفرق صاعان ، لكن أبو عبيد نقل الاتفاق على أن الفرق ثلاثة آصع ، وعلى أن الفرق ستة عشر رطلا ، ويؤيد كون الفرق ثلاثة آصع ما رواه ابن حبان عن عائشة بلفظ قدر ستة أقساط ، والقسط بكسر القاف وهو باتفاق أهل اللغة نصف صاع ولا اختلاف بينهم أن الفرق ستة عشر رطلا فصح أن الصاع خمسة أرطال وثلث قاله الحافظ ( وسمعته ) : أي قال أبو داود وسمعت أحمد بن حنبل ( يقول : صاع ابن أبي ذئب ) : وهو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب أحد الأئمة الثقات ( خمسة أرطال وثلث ) : وهو قول أهل المدينة وأهل الحجاز كافة ، واستدل لهم بدلائل منها حديث كعب بن عجرة في الفدية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له صم ثلاثة أيام وأطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع رواه البخاري ومسلم وفي لفظ لهما فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطعم فرقا بين ستة أو يهدي شاة أو يصوم ثلاثة أيام فقوله نصف صاع حجة لهم ، والفرق اثنا عشر مدا ، والمد هو ربع الصاع أو يقال إن الفرق ستة عشر رطلا ، فثبت بذلك أن الفرق ثلاثة آصع ، وأن الصاع خمسة أرطال وثلث . ومنها ما أخرجه البيهقي عن الحسين بن الوليد القرشي وهو ثقة قال : قدم علينا أبو يوسف من الحج فقال : إني أريد أن أفتح عليكم بابا من العلم أهمني ففحصت عنه فقدمت المدينة ، فسألت عن الصاع فقالوا : صاعنا هذا صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت لهم : ما حجتكم في ذلك ؟ فقالوا نأتيك بالحجة غدا ، فلما أصبحت أتاني نحو من خمسين شيخا من أبناء المهاجرين والأنصار ، مع كل رجل منهم الصاع تحت ردائه ، كل رجل منهم يخبر عن أبيه وأهل بيته أن هذا صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنظرت فإذا هي سواء ، قال : فعيرته فإذا هو خمسة أرطال وثلث بنقصان يسير ، فرأيت أمرا قويا ، فتركت قول أبي حنيفة في الصاع وأخذت بقول أهل المدينة . قال صاحب التنقيح : هذا هو المشهور من قول أبي يوسف . وقد روي أن مالكا رضي الله عنه ناظره واستدل عليه بالصيعان التي جاء بها أولئك الرهط ، فرجع أبو يوسف إلى قوله .

                                                                      قلت : قول أهل المدينة وأهل الحجاز في مقدار الصاع هو الحق والصحيح من حيث الرواية ، ولا يغرنك كلام الطحاوي في شرح معاني الآثار في ذلك الباب فإنه بنى الكلام على تأويلات بعيدة واحتمالات كاسدة ( قال ) : أبو داود فقلت لأحمد ( فمن قال ) : [ ص: 313 ] في تفسير الصاع إنه ( ثمانية أرطال ) : فقوله صحيح أم لا ؟ ( قال ) : أحمد ( ليس ذلك ) : أي كون الصاع ثمانية أرطال ( بمحفوظ ) : بل هو ضعيف لا يحتج في الأحكام بمثله .

                                                                      قلت : ذهب العراقيون منهم أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ، إلى أن الصاع ثمانية أرطال واستدل لهم بروايات منها : ما أخرجه النسائي عن موسى الجهني قال : أتى مجاهد بقدح حزرته ثمانية أرطال . فقال : حدثتني عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بمثل هذا وإسناده صحيح . والجواب عنه بوجوه . الأول : أن الحزر لا يعارض به التحديد ، والثاني : لم يصرح مجاهد بأن الإناء المذكور كان صاعا فيحمل على اختلاف الأواني مع تقاربها . والثالث : أن مجاهدا قد شك في الحزر والتقدير فقال : ثمانية أرطال ، تسعة أرطال ، عشرة أرطال كما أخرجه الطحاوي ، فكيف يعارض التحديد المصرح بهذا الحزر المشكوك . وهكذا في كل رواية من الروايات الدالة على كون الصاع ثمانية أرطال كلام يسقطها عن الاحتجاج . وقد بسط أخونا المعظم الأدلة مع الكلام عليها ، وحقق أن الصاع الحجازي ، هو صاع النبي صلى الله عليه وسلم ، في غاية المقصود .

                                                                      ( قال ) : أبو داود : ( وسمعت أحمد بن حنبل يقول من أعطى في صدقة الفطر برطلنا هذا خمسة أرطال وثلثا فقد أوفى ) : أي أتم . وأكمل قال ابن رسلان : نقل الجمهور على أنه لا فرق في الصاع بين قدر ماء الغسل وبين زكاة الفطر ، وتوسط بعض الشافعية فقال : الصاع الذي لماء الغسل ثمانية أرطال ، والذي لزكاة الفطر وغيرها خمسة أرطال وثلث وهو ضعيف . والمشهور أنه لا فرق انتهى ( قيل ) : لأحمد بن حنبل ( الصيحاني ) : تمر معروف بالمدينة قيل كان كبش اسمه صيحان يشد بنخله فنسب إليه ، قاله ابن رسلان . وقال في لسان العرب : الصيحاني ضرب من تمر المدينة قال الأزهري الصيحاني ضرب من التمر أسود صلب المضغة ، وسمي صيحانيا لأن صيحان اسم كبش كان ربط إلى نخلة بالمدينة فأثمرت تمرا فنسب إلى صيحان انتهى . وفي القاموس وشرحه : الصيحاني ضرب من تمر المدينة نسب إلى صيحان اسم لكبش كان يربط إلى تلك النخلة ، أو اسم الكبش الصياح ككتان وهو من تغيرات النسب كصنعاني في صنعاء . انتهى ( ثقيل ) : في الوزن ، فإن يوزن بخمسة أرطال وثلث رطل يقل مقداره لثقله عند الرائي ، ولا يملأ به [ ص: 314 ] الصاع ، فهل يكفي الصاع من الصيحاني الموزون بالرطل في صدقة الفطر ( قال ) : أحمد في جوابه ( الصيحاني أطيب ) : التمر فيكفي الصاع منه الموزون بالرطل بلا مرية ( قال لا أدري ) : يشبه أن يكون المعنى : لا أدري أيهما أثقل ، قاله ابن رسلان في شرح السنن . فتكون هذه الجملة من مقولة أحمد ، أي قال أحمد : الصيحاني أطيب . وقال : لا أدري أيهما من الماء والصيحاني أثقل ، هذا معنى قول ابن رسلان . ويحتمل أن تكون الجملة للسائل القائل لأحمد . أي قال ذلك القائل : إني لا أدري أن الصيحان أطيب من غيره ، والأشبه بالصواب عندي أن يقال : معنى لا أدري ، أي قال أحمد : لا أدري هل يكفي أقل من الصاع الذي يكال ، وإن كان الصيحاني بوزن خمسة أرطال وثلث ، أو لا بد أن يكون بملء الصاع ، وإن كان وزنه أكثر من خمسة أرطال وثلث . وحاصل هذا المعنى أن السائل قال : الصيحاني ثقيل في الوزن . فهل يكفي الصيحاني الموزون بالرطل وإن كان دون الصاع ؟ قال أحمد في جوابه : الصيحاني أطيب التمر لكن لا أدري هل يكفي أم لا . وحاصل المعنى الأول ، أي قال أحمد : الصيحاني أطيب التمر فيكفي الصاع منه الموزون بالرطل بلا مرية . ثم قال أحمد : ولا أدري أيهما من الماء ، والصيحاني أثقل .




                                                                      الخدمات العلمية