الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب بيع المدبر

                                                                                                                                                                                                        2117 حدثنا ابن نمير حدثنا وكيع حدثنا إسماعيل عن سلمة بن كهيل عن عطاء عن جابر رضي الله عنه قال باع النبي صلى الله عليه وسلم المدبر حدثنا قتيبة حدثنا سفيان عن عمرو سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول باعه رسول الله صلى الله عليه وسلم

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب بيع المدبر ) أي : الذي علق مالكه عتقه بموت مالكه ، سمي بذلك لأن الموت دبر الحياة أو لأن فاعله دبر أمر دنياه وآخرته : أما دنياه فباستمراره على الانتفاع بخدمة عبده ، وأما آخرته فبتحصيل ثواب العتق ، وهو راجع إلى الأول ؛ لأن تدبير الأمر مأخوذ من النظر في العاقبة فيرجع إلى دبر الأمر وهو آخره . وقد أعاد المصنف هذه الترجمة في كتاب العتق وضرب عليها في نسخة الصغاني وصارت أحاديثها داخلة في بيع الرقيق وتوجيهها واضح ، وكذا هو في رواية النسفي . وأورد المصنف فيه حديثين كل منهما من طريقين : الأول حديث جابر في بيع المدبر .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حدثنا إسماعيل ) هو ابن أبي خالد ، وعطاء هو ابن أبي رباح ، وفي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق : إسماعيل وسلمة وعطاء ، فإسماعيل وسلمة قرينان من صغار التابعين وعطاء من أوساطهم .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باع النبي - صلى الله عليه وسلم - المدبر ) هكذا أورده مختصرا ، وأخرجه ابن ماجه من طريق [ ص: 492 ] وكيع كذلك ، وأخرجه أحمد عن وكيع كذلك لكن زاد : " عن سفيان وإسماعيل جميعا عن سلمة " وأخرجه الإسماعيلي من طريق أبي بكر بن خلاد عن وكيع ولفظه : " في رجل أعتق غلاما له عن دبر وعليه دين فباعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثمانمائة درهم " وقد أخرجه المصنف في الأحكام عن ابن نمير شيخه فيه هنا لكن قال : " عن محمد بن بشر - بدل وكيع - عن إسماعيل بن أبي خالد " ولفظه : " بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رجلا من أصحابه أعتق غلاما له عن دبر لم يكن له مال غيره فباعه بثمانمائة درهم ثم أرسل بثمنه إليه " وترجم عليه : " بيع الإمام على الناس أموالهم " وقال في الترجمة : " وقد باع النبي - صلى الله عليه وسلم - مدبرا من نعيم بن النحام " وأشار بذلك إلى ما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من طريق أيوب عن أبي الزبير عن جابر : " أن رجلا من الأنصار يقال له أبو مذكور أعتق غلاما له يقال له يعقوب عن دبر لم يكن له مال غيره ، فدعا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : من يشتريه؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله النحام بثمانمائة درهم فدفعها إليه " الحديث ، وقد تقدم في " باب بيع المزايدة " من وجه آخر عن عطاء بلفظ : " إن رجلا أعتق غلاما له عن دبر فاحتاج فأخذه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله " فأفاد في هذه الرواية سبب بيعه وهو الاحتياج إلى ثمنه . وفي رواية ابن خلاد زيادة في تفسير الحاجة وهو الدين ، فقد ترجم له في الاستقراض : " من باع مال المفلس فقسمه بين الغرماء أو أعطاه حتى ينفق على نفسه " وكأنه أشار بالأول إلى ما تقدم من رواية وكيع عند الإسماعيلي في قوله : " وعليه دين " وإلى ما أخرجه النسائي من طريق الأعمش عن سلمة بن كهيل بلفظ : " إن رجلا من الأنصار أعتق غلاما له عن دبر وكان محتاجا وكان عليه دين فباعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثمانمائة درهم ، فأعطاه وقال : اقض دينك " وبالثاني إلى ما أخرجه مسلم والنسائي من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر قال : " أعتق رجل من بني عذرة عبدا له عن دبر ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ألك مال غيره؟ فقال : لا " الحديث ، وفيه : " فدفعها إليه ثم قال : ابدأ بنفسك فتصدق عليها " الحديث .

                                                                                                                                                                                                        وفي رواية أيوب المذكورة نحوه ولفظه : " وإذا كان أحدكم فقيرا فليبدأ بنفسه ، فإن كان فضل فعلى عياله " الحديث ، فاتفقت هذه الروايات على أن بيع المدبر كان في حياة الذي دبره ، إلا ما رواه شريك عن سلمة بن كهيل بهذا الإسناد : " إن رجلا مات وترك مدبرا ودينا ، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - فباعه في دينه بثمانمائة درهم " أخرجه الدارقطني ، ونقل عن شيخه أبي بكر النيسابوري أن شريكا أخطأ فيه ، والصحيح ما رواه الأعمش وغيره عن سلمة وفيه : " ودفع ثمنه إليه " وفي رواية النسائي من وجه آخر عن إسماعيل بن أبي خالد " ودفع ثمنه إلى مولاه " . قلت : وقد رواه أحمد عن أسود بن عامر عن شريك بلفظ : " إن رجلا دبر عبدا له وعليه دين ، فباعه النبي - صلى الله عليه وسلم - في دين مولاه " وهذا شبيه برواية الأعمش وليس فيه للموت ذكر ، وشريك كان تغير حفظه لما ولي القضاء ، وسماع من حمله عنه قبل ذلك أصح ومنهم أسود المذكور .

                                                                                                                                                                                                        ( تنبيهات ) : الأول : اتفقت الطرق على أن ثمنه ثمانمائة درهم ، إلا ما أخرجه أبو داود من طريق هشيم عن إسماعيل قال : " سبعمائة أو تسعمائة " . الثاني : وجدت لوكيع في حديث الباب إسنادا آخر أخرجه ابن ماجه من طريق أبي عبد الرحمن الأدرمي عنه عن أبي عمرو بن العلاء عن عطاء مثل لفظ حديث الباب [ ص: 493 ] مختصرا . الثالث : وقع في رواية الأوزاعي عن عطاء عند أبي داود زيادة في آخر الحديث وهو " أنت أحق بثمنه والله أغنى عنه " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( عن عمرو ) هو ابن دينار ، وفي رواية الحميدي في مسنده " حدثنا عمرو بن دينار " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ) هكذا أخرجه أيضا مختصرا ولم يذكر من يعود الضمير عليه ، وقد أخرجه أبو بكر بن أبي شيبة في مصنفه عن سفيان فزاد في آخره " يعني : المدبر " وأخرجه مسلم عن إسحاق بن إبراهيم وأبي بكر بن أبي شيبة جميعا عن سفيان بلفظ : " دبر رجل من الأنصار غلاما له لم يكن له مال غيره فباعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاشتراه ابن النحام عبدا قبطيا مات عام أول في إمارة ابن الزبير " وهكذا أخرجه أحمد عن سفيان بتمامه نحوه ، وقد أخرجه المصنف في كفارات الأيمان من طريق حماد بن زيد عن عمرو نحوه ، ولم يقل : " في إمارة ابن الزبير " ولا عين الثمن ، قال القرطبي وغيره : اتفقوا على مشروعية التدبير ، واتفقوا على أنه من الثلث ، غير الليث وزفر فإنهما قالا : من رأس المال ، واختلفوا هل هو عقد جائز أو لازم ، فمن قال لازم منع التصرف فيه إلا بالعتق ، ومن قال جائز أجاز ، وبالأول قال مالك والأوزاعي والكوفيون ، وبالثاني قال الشافعي وأهل الحديث ، وحجتهم حديث الباب ، ولأنه تعليق للعتق بصفة انفرد السيد بها فيتمكن من بيعه كمن علق عتقه بدخول الدار مثلا ، ولأن من أوصى بعتق شخص جاز له بيعه باتفاق فيلحق به جواز بيع المدبر ؛ لأنه في معنى الوصية ، وقيد الليث الجواز بالحاجة وإلا فيكره ، وأجاب الأول بأنها قضية عين لا عموم لها فيحمل على بعض الصور ، وهو اختصاص الجواز بما إذا كان عليه دين ، وهو مشهور مذهب أحمد والخلاف في مذهب مالك أيضا .

                                                                                                                                                                                                        وأجاب بعض المالكية عن الحديث بأنه - صلى الله عليه وسلم - رد تصرف هذا الرجل لكونه لم يكن له مال غيره فيستدل به على رد تصرف من تصدق بجميع ماله ، وادعى بعضهم أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما باع خدمة المدبر لا رقبته ، واحتج بما رواه ابن فضيل عن عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا بأس ببيع خدمة المدبر " أخرجه الدارقطني ورجال إسناده ثقات ، إلا أنه اختلف في وصله وإرساله ، ولو صح لم يكن فيه حجة إذ لا دليل فيه على أن البيع الذي وقع في قصة المدبر الذي اشتراه نعيم بن النحام كان في منفعته دون رقبته .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية