الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويستحب أن يصوم يوم عاشوراء ، لحديث أبي قتادة ، ويستحب أن يصوم يوم تاسوعاء ; لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { لئن بقيت إلى قابل لأصومن اليوم التاسع } ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث أبي قتادة سبق بيانه ولفظ مسلم فيه " { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم عاشوراء فقال : [ ص: 433 ] يكفر السنة الماضية } وأما حديث ابن عباس فرواه مسلم بلفظه ، وفي رواية لمسلم زيادة قال : { فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم } وعاشوراء وتاسوعاء اسمان ممدودان ، هذا هو المشهور في كتب اللغة ، وحكي عن أبي عمرو الشيباني قصرهما . قال أصحابنا : عاشوراء هو اليوم العاشر من المحرم ، وتاسوعاء هو التاسع منه هذا مذهبنا ، وبه قال جمهور ، العلماء وقال ابن عباس : عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرم ، ثبت ذلك في صحيح مسلم ، وتأوله على أنه مأخوذ من إظماء الإبل ، فإن العرب تسمي اليوم الخامس من أيام الورد ربعا - بكسر الراء - وكذا تسمي باقي الأيام على هذه النسبة فيكون التاسع على هذا عشرا - بكسر العين - والصحيح ما قاله الجمهور وهو أن عاشوراء هو اليوم العاشر وهو ظاهر الأحاديث ومقتضى إطلاق اللفظ ، وهو المعروف عند أهل اللغة .

                                      ( وأما ) تقدير أخذه من إظماء الإبل فبعيد ، وفي صحيح مسلم عن ابن عباس ما يرد قوله ; لأنه قال : { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم عاشوراء فذكروا أن اليهود والنصارى تصومه فقال صلى الله عليه وسلم : إنه في العام المقبل يصوم التاسع } وهذا تصريح بأن الذي كان يصومه صلى الله عليه وسلم ليس هو التاسع فتعين كونه العاشر ، واتفق أصحابنا وغيرهم على استحباب صوم عاشوراء وتاسوعاء .

                                      وذكر العلماء من أصحابنا وغيرهم في حكمة استحباب صوم تاسوعاء أوجها : ( أحدها ) أن المراد منه مخالفة اليهود في اقتصارهم على العاشر ، وهو مروي عن ابن عباس ، وفي حديث رواه الإمام أحمد بن حنبل عن ابن عباس قال : قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم { صوموا يوم عاشوراء ، وخالفوا اليهود وصوموا قبله يوما وبعده يوما } .

                                      ( الثاني ) أن المراد به وصل يوم عاشوراء بصوم ، كما نهى أن يصام يوم الجمعة وحده ، ذكرهما الخطابي وآخرون .

                                      ( الثالث ) الاحتياط في صوم العاشر خشية نقص الهلال ، ووقوع غلط فيكون التاسع في العدد هو العاشر في نفس الأمر .

                                      ( فرع ) اختلف أصحابنا في صوم يوم عاشوراء هل كان واجبا [ ص: 434 ] في أول الإسلام ؟ ثم نسخ ؟ أم لم يجب في وقت أبدا ؟ على وجهين مشهورين لأصحابنا وهما احتمالان ذكرهما الشافعي ( أصحهما ) وهو ظاهر مذهب الشافعي وعليه أكثر أصحابنا ، وهو ظاهر نص الشافعي ، بل صريح كلامه أنه لم يكن واجبا قط .

                                      ( الثاني ) أنه كان واجبا ، وهو مذهب أبي حنيفة ، وأجمع المسلمون على أنه اليوم ليس بواجب ، وأنه سنة ، فأما دليل من قال : كان واجبا فأحاديث كثيرة صحيحة ( منها ) { أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلا يوم عاشوراء إلى قومه يأمرهم فليصوموا هذا اليوم ، ومن طعم منهم فليصم بقية يومه } رواه البخاري ومسلم من رواية سلمة بن الأكوع ، وروياه في صحيحيهما بمعناه من رواية الربيع - بضم الراء وتشديد الياء - بنت معوذ . وعن عائشة قالت : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بصيام يوم عاشوراء قبل أن يفرض رمضان فلما فرض صيام رمضان ، كان من شاء صام عاشوراء ومن شاء أفطر } رواه البخاري ومسلم من طرق . وعن ابن عمر { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوم عاشوراء والمسلمون قبل أن يفرض رمضان فلما افترض رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من شاء صام ومن شاء ترك } رواه مسلم .

                                      وعن ابن مسعود في يوم عاشوراء قال : { إنما كان يوما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه ، نزل رمضان ، فلما نزل رمضان ترك } رواه مسلم وعن جابر بن سمرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم { يأمرنا بصيام عاشوراء ويحثنا عليه ويتعاهدنا عنده ، فلما فرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا ولم يتعهدنا عنده } رواه مسلم .

                                      وعن أبي موسى الأشعري وعن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصيامه } رواهما البخاري ومسلم . قال أصحاب أبي حنيفة والأمر للوجوب : وقوله صلى الله عليه وسلم : { من شاء صام ومن شاء أفطر } دليل على تخييره مع أنه سنة اليوم ، فلو لم يكن قبل ذلك واجبا لم يصح التخيير . واحتج أصحابنا على أنه لم يكن واجبا بل كان سنة بأحاديث [ ص: 435 ] صحيحة ( منها ) حديث معاوية بن أبي سفيان { أنه يوم عاشوراء قال : وهو على المنبر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن هذا اليوم يوم عاشوراء ، ولم يكتب عليكم صيامه فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر } رواه البخاري ومسلم ، وقال البيهقي : وقوله { لم يكتب عليكم صيامه } يدل على أنه لم يكن واجبا قط ; لأن " لم " لنفي الماضي ، وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { يوم عاشوراء يوم كان يصومه أهل الجاهلية فمن أحب منكم أن يصومه فليصمه ، ومن كرهه فليدعه } رواه مسلم . وعن عائشة قالت : { كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من شاء صام ومن شاء تركه } رواه مسلم ( وأما ) الجواب عن الأحاديث فهو أنها محمولة على تأكد الاستحباب جمعا بين الأحاديث ، وقوله : " فلما فرض رمضان ترك " أي ترك تأكد الاستحباب وكذا قوله : { فمن شاء صام ومن شاء أفطر } .




                                      الخدمات العلمية