الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ويجوز للصائم أن ينزل الماء وينغطس فيه ; لما روى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال : { حدثني من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم صائف يصب على رأسه الماء من شدة الحر والعطش وهو صائم } . ويجوز أن يكتحل ; لما روي عن أنس " أنه كان يكتحل وهو صائم " ولأن العين ليس بمنفذ ، فلم يبطل الصوم بما يصل إليها ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) أما حديث أبي بكر بن عبد الرحمن هذا فصحيح رواه مالك في الموطأ ، وأحمد بن حنبل في مسنده وأبو داود والنسائي في سننهما ، والحاكم أبو عبد الله في المستدرك على الصحيحين والبيهقي وغيرهم بأسانيد صحيحة وإسناد مالك وأبي داود والنسائي على شرط البخاري ومسلم ، ولفظ روايتهم " من شدة الحر أو العطش " وفي رواية النسائي " الحر " ولفظ رواية أبي داود عن أبي بكر عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حدثه قال : { لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب على رأسه الماء وهو صائم من [ ص: 387 ] العطش أو من الحر } هذا لفظه . وكذا لفظ الباقين مصرح بأن الذي حدث أبا بكر صحابي ، ولو ذكره المصنف كذلك لكان أحسن ، ولفظ رواية المصنف بمعناه ، فإن الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسلم صحابي . ثم إن هذا الصحابي وإن كان مجهول الاسم لا يقدح في صحة الحديث ; لأن الصحابة كلهم عدول . ولهذا احتج به مالك في الموطإ ، وسائر الأئمة . وأما الأثر المذكور عن أنس في الاكتحال فرواه أبو داود بإسناد كلهم ثقات إلا رجلا مختلفا فيه ، ولم يبين الذي ضعفه سبب تضعيفه ، مع أن الجرح لا يقبل إلا مفسرا وقول المصنف : ولأن العين ليس بمنفذ .

                                      هكذا هو في نسخ المهذب ( ليس ) وهي لغة ضعيفة غريبة والمشهور الفصيح ليست بإثبات التاء . وأما المنفذ فبفتح الفاء .

                                      ( أما الأحكام ) ففيها مسألتان : ( إحداهما ) يجوز للصائم أن ينزل إلى الماء وينغطس فيه ويصبه على رأسه ، سواء كان في حمام أو غيره ولا خلاف في هذا ، ودليله الحديث الذي ذكره ، وحديث عائشة وغيرها في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { كان يصبح جنبا وهو صائم ثم يغتسل } ( الثانية ) يجوز للصائم الاكتحال بجميع الأكحال ولا يفطر بذلك سواء وجد طعمه في حلقه أم لا ; لأن العين ليست بجوف ولا منفذ منها إلى الحلق ، قال أصحابنا : ولا يكره الاكتحال عندنا ، قال البندنيجي وغيره : سواء تنخمه أم لا . فرع في مذاهب العلماء في الاكتحال ذكرنا أنه جائز عندنا ولا يكره ولا يفطر به ، سواء وجد طعمه في حلقه أم لا . وحكاه ابن المنذر عن عطاء والحسن البصري والنخعي والأوزاعي وأبي حنيفة وأبي ثور ، وحكاه غيره عن ابن عمر وأنس وابن أبي أوفى الصحابيين رضي الله عنهم وبه قال داود . وحكى [ ص: 388 ] ابن المنذر عن سليمان التيمي ومنصور بن المعتمر وابن شبرمة وابن أبي ليلى أنهم قالوا : يبطل به صومه . وقال قتادة : يجوز بالإثمد ويكره بالصبر . وقال الثوري وإسحاق : يكره .

                                      قال مالك وأحمد : يكره وإن وصل إلى الحلق أفطر . واحتج للمانعين بحديث معبد بن هوذة الصحابي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم { أنه أمر بالإثمد المروح عند النوم . وقال : ليتقه الصائم } رواه أبو داود وقال : قال لي يحيى بن معين : هو حديث منكر . واحتج أصحابنا بأحاديث ضعيفة نذكرها لئلا يغتر بها . منها حديث عائشة قالت : { اكتحل النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم } رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف من رواية بقية عن سعيد بن أبي سعيد الزبيدي شيخ بقية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة . قال البيهقي : وسعيد الزبيدي هذا من مجاهيل شيوخ بقية ينفرد بما لا يتابع عليه ( قلت ) وقد اتفق الحفاظ على أن رواية بقية عن المجهولين مردودة . واختلفوا في روايته عن المعروفين فلا يحتج بحديثه هذا بلا خلاف . وعن أنس قال : { جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : اشتكت عيني أفأكتحل وأنا صائم ؟ قال : نعم } رواه الترمذي وقال : ليس إسناده بالقوي . قال : ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء . وعن نافع عن ابن عمر قال : { خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه مملوءتان من الكحل وذلك في رمضان وهو صائم } في إسناده من اختلف في توثيقه . وعن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم { كان يكتحل بالإثمد وهو صائم } رواه البيهقي وضعفه ; لأن راويه محمد هذا ضعيف قال البيهقي : وروي عن أنس مرفوعا بإسناد ضعيف جدا أنه لا بأس به . واحتجوا بالأثر المذكور عن أنس وقد بينا إسناده . وفي سنن أبي داود [ ص: 389 ] عن الأعمش قال : ما رأيت أحدا من أصحابنا يكره الكحل للصائم ، والمعتمد في المسألة ما ذكره المصنف .




                                      الخدمات العلمية