الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم .

اسم أهل الكتاب لقب في القرآن لليهود والنصارى الذين لم يتدينوا بالإسلام لأن المراد بالكتاب التوراة والإنجيل إذا أضيف إليه ( أهل ) ، فلا يطلق على المسلمين : أهل الكتاب ، وإن كان لهم كتاب ، فمن صار مسلما من [ ص: 430 ] اليهود والنصارى لا يوصف بأنه من أهل الكتاب في اصطلاح القرآن ، ولذلك لما وصف عبد الله بن سلام في القرآن وصف بقوله ومن عنده علم الكتاب وقوله وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله ، فلما كان المتحدث عنهم آنفا صاروا مؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فقد انسلخ عنهم وصف أهل الكتاب ، فبقي الوصف بذلك خاصة باليهود والنصارى ، فلما دعا الله الذين اتبعوا المسيح إلى الإيمان برسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ووعدهم بمضاعفة ثواب ذلك الإيمان ، أعلمهم أن إيمانهم يبطل ما ينتحله أتباع المسيحية بعد ذلك من الفضل والشرف لأنفسهم بدوامهم على متابعة عيسى عليه السلام فيغالطوا الناس بأنهم إن فاتهم فضل الإسلام لم يفتهم شيء من الفضل باتباع عيسى مع كونهم لم يغيروا دينهم .

وقد أفاد هذا المعنى قوله تعالى لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله .

قال الفخر : قال الواحدي : هذه آية مشكلة وليس للمفسرين كلام واضح في اتصالها بما قبلها اهـ . هل هي متصلة بقوله يؤتكم كفلين من رحمته الآية ، أو متصلة فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم إلى قوله والله غفور رحيم . يريد الواحدي أن اتصال الآية بما قبلها ينبني عليه معنى قوله تعالى لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله .

فاللام في قوله لئلا يعلم أهل الكتاب يحتمل أن تكون تعليلية فيكون ما بعدها معلولا بما قبلها ، وعليه فحرف ( لا ) يجوز أن يكون زائدا للتأكيد والتقوية .

والمعلل هو ما يرجع إلى فضل الله لا محالة وذلك ما تضمنه قوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم أو قوله فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم إلى " غفور رحيم " .

وذهب جمهور المفسرين إلى جعل ( لا ) زائدة . وأن المعنى على الإثبات ، أي : لأن يعلم ، وهو قول ابن عباس وقرأ " ليعلم " ، وقرأ أيضا " لكي يعلم " ، ( ( وقراءته تفسير ) . وهذا قول الفراء ، والأخفش ، ودرج عليه الزمخشري في [ ص: 431 ] الكشاف وابن عطية ، وابن هشام في مغني اللبيب ، وهو بناء على أن ( لا ) قد تقع زائدة وهو ما أثبته الأخفش ، ومنه قوله تعالى ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا تتبعني وقوله ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك وقوله فلا أقسم بمواقع النجوم ونحو ذلك ، وقوله : وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون على أحد تأويلات ، وروي أن العرب جعلتها حشوا في قول الشاعر أنشده أبو عمرو بن العلاء :

أبى جوده لا البخل واستعجلت به " نعم " من فتى لا يمنع الجود قائله



في رواية بنصب ( البخل ) ، البخل وأن العرب فسروا البيت بمعنى أبى جوده البخل .

والمعنى : على هذا الوجه أن المعلل هو تبليغ هذا الخبر إلى أهل الكتاب ليعلموا أن فضل الله أعطي غيرهم فلا يتبجحوا بأنهم على فضل لا ينقص عن فضل غيرهم إذ كان لغيرهم فضل وهو الموافق لتفسير مجاهد ، وقتادة .

وعندي : أنه لا يعطي معنى لأن إخبار القرآن بأن للمسلمين أجرين لا يصدق به أهل الكتاب فلا يستقر به علمهم بأنهم لا فضل لهم فكيف يعلل إخبار الله به بأنه يزيل علم أهل الكتاب بفضل أنفسهم فيعلمون أنهم لا فضل لهم .

وذهب أبو مسلم الأصفهاني وتبعه جماعة إلى أن ( لا ) نافية ، وقرره الفخر بأن ضمير " يقدرون " عائد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا به ( أي : على طريق الالتفات من الخطاب إلى الغيبة وأصله أن لا تقدروا ) وإذا انتفى علم أهل الكتاب بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين لا يقدرون على شيء من فضل الله ثبت ضد ذلك في علمهم أي : كيف أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين يقدرون على فضل الله ، ويكون " يقدرون " مستعارا لمعنى : ينالون ، وأن الفضل بيد الله ، فهو الذي فضلهم ، ويكون ذلك كناية عن انتفاء الفضل عن أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالرسول - صلى الله عليه وسلم - .

[ ص: 432 ] ويرد على هذا التفسير ما ورد على الذي قبله لأن علم أهل الكتاب لا يحصل بإخبار القرآن لأنهم يكذبون به .

وأنا أرى أن دعوى زيادة ( لا ) لا داعي إليها ، وأن بقاءها على أصل معناها وهو النفي متعين ، وتجعل اللام للعاقبة ، أي : أعطيناكم هذا الفضل وحرم منه أهل الكتاب فبقي أهل الكتاب في جهلهم وغرورهم بأن لهم الفضل المستمر ولا يحصل لهم علم بانتفاء أن يكونوا يملكون فضل الله ولا أن الله قد أعطى الفضل قوما آخرين وحرمهم إياه فينسون أن الفضل بيد الله ، وليس أحد يستحقه بالذات .

وبهذا الغرور استمروا على التمسك بدينهم القديم ، ومعلوم أن لام العاقبة أصلها التعليل المجازي كما علمته في تفسير قوله تعالى فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا في سورة القصص .

وقوله " أهل الكتاب " يجوز أن يكون صادقا على اليهود خاصة إن جعل التعليل تعليلا لمجموع قوله فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وقوله يؤتكم كفلين من رحمته . ويجوز أن يكون صادقا على اليهود والنصارى إن جعل لام التعليل علة لقوله يؤتكم كفلين من رحمته .

و ( أن ) من قوله " أن لا يقدرون " مخففة من ( أن ) واسمها ضمير شأن محذوف .

والمعنى : لا تكترثوا بعدم علم أهل الكتاب بأنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله وبأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، أي : لا تكترثوا بجهلهم المركب في استمرارهم على الاغترار بأن لهم منزلة عند الله تعالى فإن الله عالم بذلك وهو خلقهم فهم لا يقلعون عنه ، وهذا مثل قوله تعالى ختم الله على قلوبهم في سورة البقرة .

[ ص: 433 ] وجملة والله ذو الفضل العظيم تذييل يعم الفضل الذي آتاه الله أهل الكتاب المؤمنين بمحمد - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الفضل .

التالي السابق


الخدمات العلمية