الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى ولكنكم فتنتم أنفسكم وتربصتم وارتبتم وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله وغركم بالله الغرور .

" يوم يقول " بدل من يوم ترى المؤمنين بدلا مطابقا إذ اليوم هو عين اليوم المعرف بقوله يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم .

والقول في فتحة " يوم " تقدم في نظره قريبا .

وعطف " المنافقات " على " المنافقون " كعطف المؤمنات على المؤمنين في الآية قبل هذه .

والذين آمنوا تغليب للذكور لأن المخاطبين هم أصحاب النور وهو للمؤمنين والمؤمنات .

[ ص: 382 ] و " انظرونا " بهمزة وصل مضموما ، من نظره ، إذا انتظره مثل نظر ، إذا أبصر ، إلا أن نظر بمعنى الانتظار يتعدى إلى المفعول ، ونظر بمعنى أبصر يتعدى بحرف ( إلى ) قال تعالى وانظر إلى العظام كيف ننشزها .

الانتظار : التريث بفعل ما ، أي : تريثوا في سيركم حتى نلحق بكم فنستضيء بالنور الذي بين أيديكم وبجانبكم وذلك يقتضي أن الله يأذن للمؤمنين الأولين بالسير إلى الجنة فوجا ، ويجعل المنافقين الذين كانوا بينهم في المدينة سائرين وراءهم كما ورد في حديث الشفاعة " وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها " والمعنى : أنهم يسيرون في ظلمات فيسأل المنافقون المؤمنين أن ينتظروهم .

وقرأ الجمهور " انظرونا " بهمزة وصل وضم الظاء ، وقرأه حمزة وحده بهمزة قطع وكسر الظاء ، من أنظره ، إذا أمهله ، أي : أمهلونا حتى نلحق بكم ولا تعجلوا السير فينأى نوركم عنا وهم يحسبون أن بعدهم عنهم من جراء السرعة .

والاقتباس حقيقته : أخذ القبس بفتحتين وهو الجذوة من الجمر . قال أبو علي الفارسي : ومجيء فعلت وافتعلت بمعنى واحد كثير كقولهم : شويت واشتويت ، وحقرت واحتقرت ، قلت : وكذلك حفرت واحتفرت ، فيجوز أن يكون إطلاق نقتبس هنا حقيقة بأن يكونوا ظنوا أن النور الذي كان مع المؤمنين نور شعلة وحسبوا أنهم يستطيعون أن يأخذوا قبسا منه يلقى ذلك في ظنهم لتكون خيبتهم أشد حسرة عليهم .

ويجوز أن يستعار الاقتباس لانتفاع أحد بضوء آخر لأنه يشبه الاقتباس في الانتفاع بالضوء بدون علاج فمعنى نقتبس من نوركم نصب منه ونلتحق به فنستنر به .

ويظهر من إسناد " قيل " بصيغة المجهول أن قائله غير المؤمنين المخاطبين وإنما هو من كلام الملائكة السائقين للمنافقين .

وتكون مقالة الملائكة للمنافقين تهكما إذ لا نور وراءهم وإنما أرادوا إطماعهم [ ص: 383 ] ثم تخييبهم بضرب السور بينهم وبين المؤمنين ، لأن الخيبة بعد الطمع أشد حسرة . وهذا استهزاء كان جزاء على استهزائهم بالمؤمنين واستسخارهم بهم ، فهو من معنى قوله تعالى الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم .

و " وراءكم " : تأكيد لمعنى " ارجعوا " إذ الرجوع يستلزم الوراء ، وهذا كما يقال : رجع القهقرى . ويجوز أن يكون ظرفا لفعل " التمسوا نورا " ، أي : في المكان الذي خلفكم .

وتقديمه على عامله للاهتمام فيكون فيه معنى الإغراء بالتماس النور هناك وهو أشد في الإطماع ، لأنه يوهم أن النور يتناول من ذلك المكان الذي صدر منه المؤمنون ، وبذلك الإيهام لا يكون الكلام كذبا لأنه من المعاريض لا سيما مع احتمال أن يكون وراءكم تأكيدا لمعنى ارجعوا .

وضمير " بينهم " عائد إلى المؤمنين والمنافقين .

وضرب السور : وضعه ، يقال : ضرب خيمة ، قال عبدة بن الطيب :

إن التي ضربت بيتا مهاجرة بكوفة الجند غالت ودها غول

وضمن " ضرب " في الآية معنى الحجز فعدي بالباء ، أي : ضرب بينهم سور للحجز به بين المنافقين والمؤمنين ، خلقه الله ساعتئذ قطعا لأطماعهم ، وتركهم في ظلمات لا يبصرون ، فحق بذلك التمثيل الذي مثل الله به حالهم في الدنيا بقوله مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون في سورة البقرة . وأن الحيرة وعدم رؤية المصير عذاب أليم .

ولعل ضرب السور بينهم وجعل العذاب بظاهره والنعيم بباطنه قصد منه التمثيل لهم بأن الفاصل بين النعيم والعذاب هو الأعمال في الدنيا وأن الأعمال التي يعملها الناس في الدنيا منها ما يفضي بعامله إلى النعيم ومنها ما يفضي بصاحبه إلى العذاب فأحد طرفي السور مثال لأحد العملين وطرفه الآخر مثال [ ص: 384 ] لضده . و " الباب " واحد وهو الموت ، وهو الذي يسلك بالناس إلى أحد الجانبين .

ولعل جعل الباب في سور واحد فيه مع ذلك ليمر منه أفواج المؤمنين الخالصين من وجود منافقين بينهم بمرأى من المنافقين المحبوسين وراء ذلك السور تنكيلا بهم وحسرة حين يشاهدون أفواج المؤمنين يفتح لهم الباب الذي في السور ليجتازوا منه إلى النعيم الذي بباطن السور .

وركب القصاصون على هذه الآية تأويلات موضوعة في فضائل بلاد القدس بفلسطين عزوها إلى كعب الأحبار فسموا بعض أبواب مدينة القدس باب الرحمة ، وسموا مكانا منها وادي جهنم ، وهو خارج سور بلاد القدس ، ثم ركبوا تأويل الآية عليها وهي أوهام على أوهام .

واعلم أن هذا السور المذكور في هذه الآية غير الحجاب الذي ذكر في سورة الأعراف .

وضمائر " له باب " و " باطنه " و " ظاهره " عائد إلى السور ، والجملتان صفتان ل " سور " . وإنما عطفت الجملة الثالثة بالواو لأن المقصود من الصفة مجموع الجملتين المتعاطفتين كقوله تعالى ثيبات وأبكارا .

والباطن : هو داخل الشيء ، والظاهر : خارجه .

فالباطن : هو داخل السور الحاجز بين المسلمين والمنافقين وهو مكان المسلمين .

والبطون والظهور هنا نسبيان ، أي : باعتبار مكان المسلمين ومكان المنافقين ، فالظاهر هو الجهة التي نحو المنافقين ، أي : ضرب بينهم بسور يشاهد المنافقون العذاب من ظاهره الذي يواجههم ، وإن الرحمة وراء ما يليهم .

و " قبل " بكسر ففتح ، الجهة المقابلة ، وقوله " من قبله " خبر مقدم ، و " العذاب " مبتدأ والجملة برمتها خبر عن ظاهره .

[ ص: 385 ] و ( من ) بمعنى ( في ) كالتي في قوله تعالى إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فتكون نظير قوله باطنه فيه الرحمة .

والعذاب : هو حرق جهنم فإن جهنم دار عذاب ، قال تعالى إن عذابها كان غراما .

وجملة ينادونهم حال من يقول المنافقون والمنافقات .

وضمائر ينادونهم ألم نكن معكم قالوا بلى تعرف مراجعها مما تقدم من قوله يوم يقول المنافقون والمنافقات الآية .

و ألم نكن معكم استفهام تقريري ، استعمل كناية عن طلب اللحاق بهم والانضمام إليهم كما كانوا معهم في الدنيا يعملون أعمال الإسلام من المسلمين .

والمعية أطلقت على المشاركة في أعمال الإسلام من نطق بكلمة الإسلام وإقامة عبادات الإسلام ، توهموا أن المعاملة في الآخرة تجري كما تجري المعاملة في الدنيا على حسب صور الأعمال ، وما دروا أن الصور مكملات وأن قوامها إخلاص الإيمان وهذا الجواب إقرار بأن المنافقين كانوا يعملون أعمالهم معهم .

ولما كان هذا الإقرار يوهم أنه قول بموجب الاستفهام التقريري أعقبوا جوابهم الإقراري بالاستدراك الرافع لما توهمه المنافقون من أن الموافقة للمؤمنين في أعمال الإسلام تكفي في التحاقهم بهم في نعيم الجنة فبينوا لهم أسباب التباعد بينهم بأن باطنهم كان مخالفا لظاهرهم .

وذكروا لهم أربعة أصول هي أسباب الخسران ، وهي : فتنة أنفسهم ، والتربص بالمؤمنين ، والارتياب في صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - والاغترار بما تموه إليهم أنفسهم .

وهذه الأربعة هي أصول الخصال المتفرعة على النفاق .

الأول : فتنتهم أنفسهم ، أي : عدم قرار ضمائرهم على الإسلام ، فهم في ريبهم يترددون ، فكأن الاضطراب وعدم الاستقرار خلق لهم فإذا خطرت في [ ص: 386 ] أنفسهم خواطر خير من إيمان ومحبة للمؤمنين نقضوها بخواطر الكفر والبغضاء ، وهذا من صنع أنفسهم فإسناد الفتن إليهم إسناد حقيقي ، وكذلك الحال في أعمالهم من صلاة وصدقة .

وهذا ينشأ عن الكذب ، والخداع ، والاستهزاء ، والطعن في المسلمين ، قال تعالى يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به .

الثاني : التربص ، والتربص : انتظار شيء ، وتقدم في قوله تعالى والمطلقات يتربصن بأنفسهن الآية .

ويتعدى فعله إلى المفعول بنفسه ويتعلق به ما زاد على المفعول بالباء . وحذف هنا مفعوله ومتعلقه ليشمل عدة الأمور التي ينتظرها المنافقون في شأن المؤمنين وهي كثيرة مرجعها إلى أذى المؤمنين والإضرار بهم فيتربصون هزيمة المسلمين في الغزوات ونحوها من الأحداث ، قال تعالى في بعضهم ويتربص بكم الدوائر ويتربصون انقسام المؤمنين فقد قالوا لفريق من الأنصار يندمونهم على من قتل من قومهم في بعض الغزوات لو أطاعونا ما قتلوا .

الثالث : الارتياب في الدين وهو الشك في الاعتماد على أهل الإسلام أو على الكافرين وينشأ عنه القعود عن الجهاد قال تعالى فهم في ريبهم يترددون ولذلك كانوا لا يؤمنون بالآجال ، وقالوا لإخوانهم لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا .

الرابع : الغرور بالأماني ، وهي جمع أمنية وهي اسم التمني . والمراد بها ما كانوا يمنون به أنفسهم من أنهم على الحق وأن انتصار المؤمنين عرض زائل ، وأن الحوادث تجري على رغبتهم وهواهم ، ومن ذلك قولهم ليخرجن الأعز منها الأذل وقولهم لو نعلم قتالا لاتبعناكم ولذلك يحسبون أن العاقبة لهم هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا . وقد بينت الخصال التي تتولد على النفاق في تفسير سورة البقرة فطبق عليه هذه الأصول الأربعة وألحق فروع بعضها ببعض .

والمقصود من الغاية بـ حتى جاء أمر الله التنديد عليهم بأنهم لم يرعووا عن [ ص: 387 ] غيهم مع طول مدة أعمارهم وتعاقب السنين عليهم وهم لم يتدبروا في العواقب ، كما قال تعالى أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وإسناد التغيير إلى الأماني مجاز عقلي لأن الأماني والطمع في حصولها سبب غرورهم وملابسه .

ومجيء أمر الله هو الموت ، أي حتى يتم على تلك الحالة السيئة ولم تقلعوا عنها بالإيمان الحق .

والغاية معترضة بين الجملتين المتعاطفتين ، ومن حق المؤمن أن يعتبر بما تضمنه قوله تعالى وغرتكم الأماني حتى جاء أمر الله الآية ، فلا يماطل التوبة ولا يقول : غدا غدا .

وجملة وغركم بالله الغرور عطف على جملة وغرتكم الأماني تحقيرا لغرورهم وأمانيهم بأنها من كيد الشيطان ليزدادوا حسرة حينئذ .

والغرور : بفتح الغين مبالغة في المتصف بالتغرير ، والمراد به الشيطان ، أي : بإلقائه خواطر النفاق في نفوسهم بتلوينه بلون الحق وإرضاء دين الكفر الذي يزعمون أنه رضي الله وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم .

ويجوز أن يراد جنس الغارين ، أي : وغركم بالله أئمة الكفر وقادة النفاق .

والتغرير : إظهار الضار في صورة النافع بتمويه وسفسطة .

والباء في قوله بالله للسببية أو للآلة المجازية ، أي : جعل الشيطان شأن الله سببا لغروركم بأن خيل إليكم أن الحفاظ على الكفر مرضي لله تعالى وأن النفاق حافظتم به على دينكم وحافظتم به نفوسكم وكرامة قومكم واطلعتم به على أحوال عدوكم .

وهذا كله معلوم عندهم قد شاهدوا دلائله فمن أجل ذلك فرعوا لهم عليه قولهم فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ، قطعا لطمعهم أن يكونوا مع المؤمنين يومئذ كما كانوا معهم في الحياة .

التالي السابق


الخدمات العلمية