الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 114 ] المسألة الرابعة

              محال الاجتهاد المعتبر هي ما ترددت بين طرفين وضح في كل واحد منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما والنفي في الآخر; فلم تنصرف البتة إلى طرف النفي ، ولا إلى طرف الإثبات .

              وبيانه أن نقول : لا تخلو أفعال المكلف أو تروكه إما أن يأتي فيها خطاب من الشارع أو لا; فإن لم يأت فيها خطاب; فإما أن يكون على البراءة الأصلية أو يكون فرضا غير موجود ، والبراءة الأصلية في الحقيقة راجعة [ ص: 115 ] إلى خطاب الشارع بالعفو أو غيره ، وإن أتى فيها خطاب; فإما أن يظهر فيه للشارع قصد في النفي أو في الإثبات أو لا ; فإن لم يظهر له قصد البتة ، فهو قسم المتشابهات ، وإن ظهر فتارة يكون قطعيا ، وتارة يكون غير قطعي; فأما القطعي ، فلا مجال للنظر فيه بعد وضوح الحق في النفي أو في الإثبات ، وليس محلا للاجتهاد ، وهو قسم الواضحات; لأنه واضح الحكم حقيقة ، والخارج عنه مخطئ قطعا وأما غير القطعي ، فلا يكون كذلك إلا مع دخول احتمال فيه أن يقصد الشارع معارضه أو لا; فليس من الواضحات بإطلاق ، بل بالإضافة إلى ما هو أخفى منه ، كما أنه يعد غير واضح بالنسبة إلى ما هو أوضح منه; لأن مراتب الظنون في النفي والإثبات تختلف بالأشد والأضعف حتى تنتهي إما إلى العلم وإما إلى الشك ، إلا أن هذا الاحتمال تارة يقوى في إحدى الجهتين ، وتارة لا يقوى; فإن لم يقو رجع إلى قسم المتشابهات ، والمقدم [ ص: 116 ] عليه حائم حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، وإن قوي في إحدى الجهتين; فهو قسم المجتهدات ، وهو الواضح الإضافي بالنسبة إليه في نفسه ، وبالنسبة إلى أنظار المجتهدين; فإن كان المقدم عليه من أهل الاجتهاد فواضح في حقه في النفي أو في الإثبات إن قلنا : إن كل مجتهد مصيب ، وأما على قول المخطئة; فالمقدم عليه إن كان مصيبا في نفس الأمر فواضح ، وإلا فمعذور .

              وقد تقرر من هذا الأصل أن قسم المتشابهات مركب من تعارض النفي والإثبات; إذ لو لم يتعارضا لكان من قسم الواضحات ، وأن الواضح بإطلاق لم يتعارض فيه نفي مع إثبات ، بل هو إما منفي قطعا وإما مثبت قطعا ، وأن الإضافي إنما صار إضافيا; لأنه مذبذب بين الطرفين الواضحين; فيقرب عند بعض من أحد الطرفين ، وعند بعض من الطرف الآخر ، وربما جعله بعض الناس من قسم المتشابهات ، فهو غير مستقر في نفسه; فلذلك صار إضافيا لتفاوت مراتب الظنون في القوة والضعف ، ويجري مجرى النفي في أحد الطرفين إثبات ضد الآخر فيه; فثبوت العلم مع نفيه نقيضان; كوقوع التكليف وعدمه ، [ ص: 117 ] وكالوجوب وعدمه ، وما أشبه ذلك ، وثبوت العلم مع ثبوت الظن أو الشك ضدان ، كالوجوب مع الندب ، أو الإباحة ، أو التحريم ، وما أشبه ذلك .

              وهذا الأصل واضح في نفسه ، غير محتاج إلى إثباته بدليل ، ولكن لا بد من التأنيس فيه بأمثلة يستعان بها على فهمه وتنزيله والتمرن فيه إن شاء الله .

              فمن ذلك أنه نهى عن بيع الغرر ، ورأينا العلماء أجمعوا على منع بيع الأجنة والطير في الهواء ، والسمك في الماء ، وعلى جواز بيع الجبة التي حشوها مغيب عن الأبصار ، ولو بيع حشوها بانفراده لامتنع ، وعلى جواز كراء الدار مشاهرة مع احتمال أن يكون الشهر ثلاثين أو تسعة وعشرين ، وعلى دخول الحمام مع اختلاف عادة الناس في استعمال الماء وطول اللبث ، وعلى شرب الماء من السقاء مع اختلاف العادات في مقدار الري; فهذان طرفان في اعتبار الغرر وعدم اعتباره; لكثرته في الأول وقلته مع عدم الانفكاك عنه في [ ص: 118 ] الثاني; فكل مسألة وقع الخلاف فيها في باب الغرر فهي متوسطة بين الطرفين ، آخذة بشبه من كل واحد منهما; فمن أجاز مال إلى جانب اليسارة ، ومن منع مال إلى الجانب الآخر .

              ومن ذلك مسألة زكاة الحلي ، وذلك أنهم أجمعوا على عدم الزكاة في العروض وعلى الزكاة في النقدين ، فصار الحلي المباح الاستعمال دائرا بين الطرفين; فلذلك وقع الخلاف فيها .

              واتفقوا على قبول رواية العدل وشهادته ، وعلى عدم قبول ذلك من الفاسق ، وصار المجهول الحال دائرا بينهما; فوقع الخلاف فيه .

              واتفقوا على أن الحر يملك وأن البهيمة لا تملك ، ولما أخذ العبد بطرف من كل جانب اختلفوا فيه : هل يملك ، أم لا ؟ بناء على تغليب حكم أحد الطرفين .

              [ ص: 119 ] واتفقوا على أن الواجد للماء قبل الشروع في الصلاة يتوضأ ولا يصلي بتيممه ، وبعد إتمامها وخروج الوقت لا يلزمه الوضوء وإعادة الصلاة ، وما بين ذلك دائر بين الطرفين; فاختلفوا فيه .

              واتفقوا على أن ثمرة الشجرة إذا لم تظهر تابعة للأصل في البيع ، وعلى أنها غير تابعة لها إذا جذت ، واختلفوا فيها إذا كانت ظاهرة ، وإذا أفتى واحد وعرفه أهل الإجماع ، وأقروا بالقبول فإجماع باتفاق ، أو أنكروا ذلك فغير إجماع باتفاق; فإن سكتوا من غير ظهور إنكار; فدائر بين الطرفين فلذلك اختلفوا فيه ، والمبتدع بما يتضمن كفرا من غير إقرار بالكفر دائر بين طرفين; فإن المبتدع بما لا يتضمن كفرا من الأمة ، وبما اقتضى كفرا مصرحا به ليس [ ص: 120 ] من الأمة; فالوسط مختلف فيه : هل هو من الأمة ، أم لا ؟

              وأرباب النحل والملل اتفقوا على أن الباري تعالى موصوف بأوصاف الكمال بإطلاق ، وعلى أنه منزه عن النقائص بإطلاق ، واختلفوا في إضافة أمور إليه بناء على أنها كمال ، وعدم إضافتها إليه بناء على أنها نقائص ، وفي عدم إضافة أمور إليه بناء على أن عدم الإضافة كمال ، أو إضافتها بناء على أن الإضافة إليه هي الكمال ، وكذلك ما أشبهها .

              فكل هذه المسائل إنما وقع الخلاف فيها; لأنها دائرة بين طرفين واضحين; فحصل الإشكال والتردد ، ولعلك لا تجد خلافا واقعا بين العقلاء معتدا به في العقليات أو في النقليات ، لا مبنيا على الظن ، ولا على القطع; إلا دائرا بين طرفين ولا يختلف فيهما أصحاب الاختلاف في الواسطة المترددة بينهما فاعتبره تجد كذلك - إن شاء الله - .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية