الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر هذه الجملة كالنتيجة لحاصل القصص عن الأمم التي كذبت الرسل من قوم نوح فمن ذكر بعدهم ولذلك فصلت ولم تعطف .

وقد غير أسلوب الكلام من كونه موجها للرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى توجيهه للمشركين لينتقل عن التعريض إلى التصريح اعتناء بمقام الإنذار والإبلاغ .

والاستفهام في قوله أكفاركم خير من أولئكم يجوز أن يكون على [ ص: 210 ] حقيقته ، ويكون من المحسن البديعي الذي سماه السكاكي سوق المعلوم مساق غيره وسماه أهل الأدب من قبله ب ( تجاهل العارف ) . وعدل السكاكي عن تلك التسمية وقال لوقوعه في كلام الله تعالى نحو قوله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين وهو هنا للتوبيخ كما في قول ليلى ابنة طريف الخارجية ترثي أخاها الوليد بن طريف الشيباني :

أيا شجر الخابور مالك مورقا كأنك لم تجزع على ابن طريف

الشاهد في قولها : كأنك لم تجزع إلخ .

والتوبيخ على تخطئتهم في عدم العذاب الذي حل بأمثالهم حتى كأنهم يحسبون كفارهم خيرا من الكفار الماضين المتحدث عن قصصهم ، أي ليس لهم خاصية تربأ بهم عن أن يلحقهم ما لحق الكفار الماضين . والمعنى : إنكم في عدم اكتراثكم بالموعظة بأحوال المكذبين السابقين لا تخلون عن أن أحد الأمرين الذي طمأنكم من أن يصيبكم مثلما أصابهم .

و أم للإضراب الانتقالي . وما يقدر بعدها من استفهام مستعمل في الإنكار . والتقدير : بل ما لكم براءة في الزبر حتى تكونوا آمنين من العقاب .

وضمير كفاركم لأهل مكة وهم أنفسهم الكفار ، فإضافة لفظ كفار إلى ضميرهم إضافة بيانية لأن المضاف صنف من جنس من أضيف هو إليه فهو على تقدير ( من ) البيانية . والمعنى : الكفار منكم خير من الكفار السالفين . أي أأنتم الكفار خير من أولئك الكفار .

والمراد بالأخيرية انتفاء الكفر ، أي : خير عند الله الانتقام الإلهي وادعاء فارق بينهم وبين أولئك .

والبراءة : الخلاص والسلامة مما يضر أو يشق أو يكلف كلفة . والمراد هنا : الخلاص من المؤاخذة والمعاقبة .

والزبر : جمع زبور ، وهو الكتاب ، وزبور بمعنى مزبور ، أي ( براءة ) كتبت في كتب الله السالفة .

[ ص: 211 ] والمعنى : ألكم براءة في الزبر أن كفاركم لا ينالهم العقاب الذي نال أمثالهم من الأمم السابقة .

و ( في الزبر ) صفة ( براءة ) ، أي : كائنة في الزبر ، أي : مكتوبة في صحائف الكتب .

وأفاد هذا الكتاب ترديد النجاة من العذاب بين الأمرين : إما الاتصاف بالخير الإلهي المشار إليه بقوله تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم ، وإما المسامحة والعفو عما يقترفه المرء من السيئات المشار إليه بقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم .

والمعنى : انتفاء كلا الأمرين عن المخاطبين فلا مأمن لهم من حلول العذاب بهم كما حل بأمثالهم .

والآية تؤذن بارتقاب عذاب ينال المشركين في الدنيا دون العذاب الأكبر ، وذلك عذاب الجوع الذي في قوله تعالى فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين كما تقدم ، وعذاب السيف يوم بدر الذي في قوله تعالى يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون .

التالي السابق


الخدمات العلمية