الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
يوم يدع الداع إلى شيء نكر خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر استئناف بياني لأن الأمر بالتولي مؤذن بغضب ووعيد ، فمن شأنه أن يثير في نفس السامع تساؤلا عن مجمل هذا الوعيد . وهذا الاستئناف وقع معترضا بين جملة ولقد جاءهم من الأنباء وجملة كذبت قبلهم قوم نوح .

وإذ قد كان المتوعد به شيئا يحصل يوم القيامة قدم الظرف على عامله وهو يقول الكافرون هذا يوم عسر ليحصل بتقديمه إجمال يفصله بعض التفصيل ما يذكر بعده ، فإذا سمع السامع هذا الظرف علم أنه ظرف لأهوال تذكر بعده هي تفصيل ما أجمله قوله فتول عنهم من الوعيد بحيث لا يحسن وقع شيء مما في هذه الجملة هذا الموقع غير هذا الظرف ، ولولا تقديمه لجاء الكلام غير موثوق العرى ، وانظر كيف جمع فيما بعد قوله يوم يدع الداعي كثيرا من الأهوال [ ص: 177 ] آخذ بعضها بحجز بعض بحسن اتصال ينقل كل منها ذهن السامع إلى الذي بعده من غير شعور بأنه يعدد له أشياء .

وقد عد سبعة من مظاهر الأهوال .

أولها : دعاء الداعي فإنه مؤذن بأنهم محضرون إلى الحساب ، لأن مفعول يدعو محذوف بتقدير : يدعوهم الداعي بدلالة ضمير عنهم على تقدير المحذوف .

الثاني : أنه يدعو إلى شيء عظيم ، لأن ما في لفظ شيء من الإبهام يشعر بأنه مهول ، وما في تنكيره من التعظيم يجسم ذلك الهول .

وثالثها : وصف شيء بأنه نكر ، أي : موصوف بأنه تنكره النفوس وتكرهه .

والنكر بضمتين : صفة ، وهذا الوزن قليل في الصفات ، ومنه قولهم : روضة أنف ، أي جديدة لم ترعها الماشية ، ورجل شلل ، أي : خفيف سريع في الحاجات ، ورجل سجح بجيم قبل الحاء ، أي : سمح ، وناقة أجد : قوية موثقة فقار الظهر ، ويجوز إسكان عين الكلمة فيها للتخفيف ، وبه قرأ ابن كثير هنا .

ورابعها : خشعا أبصارهم أي : ذليلة ينظرون من طرف خفي لا تثبت أحداقهم في وجوه الناس ، وهي نظرة الخائف المفتضح ، وهو كناية لأن ذلة الذليل وعزة العزيز تظهران في عيونهما .

وخامسها : تشبيههم بالجراد المنتشر في الاكتظاظ واستتار بعضهم ببعض من شدة الخوف زيادة على ما يفيده التشبيه من الكثرة والتحرك .

وسادسها : وصفهم بمهطعين ، والمهطع : الماشي سريعا مادا عنقه ، وهي مشية مذعور غير ملتفت إلى شيء ، يقال : هطع وأهطع .

وسابعها : قولهم هذا يوم عسر وهو قول من أثر ما في نفوسهم من [ ص: 178 ] خوف . و عسر : صفة مشبهة من العسر وهو الشدة والصعوبة . ووصف اليوم ب عسر وصف مجازي عقلي باعتبار كونه زمانا لأمور عسرة شديدة من شدة الحساب وانتظار العذاب .

وأبهم شيء نكر للتهويل ، وذلك هو أهوال الحساب وإهانة الدفع ومشاهدة ما أعد لهم من العذاب .

وانتصب خشعا أبصارهم على الحال من الضمير المقدر في يدعو الداع وإما من ضمير يخرجون مقدما على صاحبه .

وقرأ نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وعاصم ، وأبو جعفر خشعا بصيغة جمع خاشع . وقرأه أبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، ويعقوب ، وخلف ( خاشعا ) بصيغة اسم الفاعل . قال الزجاج : لك في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد والتذكير نحو خاشعا أبصارهم . ولك التوحيد والتأنيث نحو قراءة ابن مسعود ( خاشعة أبصارهم ) ، ولك الجمع نحو خشعا أبصارهم اهـ .

و أبصارهم فاعل خشعا ولا ضير في كون الوصف الرافع للفاعل على صيغة الجمع ، لأن المحظور هو لحاق علامة الجمع والتثنية للفعل إذا كان فاعله الظاهر جمعا أو مثنى ، وليس الوصف كذلك ، كما نبه عليه الرضي على أنه إذا كان الوصف جمعا مكسرا ، وكان جاريا على موصوف هو جمع ، فرفع الاسم الظاهر بالوصف المجموع أولى من رفعه بالوصف المجموع المفرد على ما اختاره المبرد ، وابن مالك كقول امرئ القيس :


وقوفا بها صحبي علي مطيهم

وشاهد هذا القراء .

وقوله يقول الكافرون إظهار في مقام الإضمار لوصفهم بهذا الوصف الذميم وفيه تفسير الضمائر السابقة .

والأجداث : جمع جدث وهو القبر ، وقد جعل الله خروج الناس إلى الحشر من مواضع دفنهم في الأرض ، كما قال منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى [ ص: 179 ] فيعاد خلق كل ذات من التراب الذي فيه بقية من أجزاء الجسم وهي ذرات يعلمها الله تعالى .

والجراد : اسم جمع واحده جرادة وهي حشرة ذات أجنحة أربعة مطوية على جنبيها وأرجل أربعة ، أصفر اللون .

والمنتشر : المنبث على وجه الأرض . والمراد هنا الدبى وهو فراخ الجراد قبل أن تظهر له الأجنحة ، لأنه يخرج من ثقب في الأرض هي مبيضات أصوله فإذا تم خلقه خرج من الأرض يزحف بعضه فوق بعض ، قال تعالى يوم يكون الناس كالفراش المبثوث ، وهذا التشبيه تمثيلي لأنه تشبيه هيئة خروج الناس من القبور متراكمين بهيئة خروج الجراد متعاظلا يسير غير ساكن .

التالي السابق


الخدمات العلمية