الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وقال شيخ الإسلام رحمه الله فصل : العقود التي فيها نوع معاوضة - وهي غالب معاملات بني آدم التي لا يقومون إلا بها - سواء كانت مالا بمال . كالبيع أو كانت منفعة بمال كالإجارة والجعالة وقد يدخل في المسألة : الإمارة والتجنيد ونحو ذلك من الولايات . أو كانت منفعة بمنفعة كالتعاون والتناصر ونحو ذلك . تنقسم أربعة أقسام : فإنها إما أن تكون مباحة من الجانبين . كالبيع والإجارة والتعاون على البر والتقوى . وإما أن تكون حراما من الجهتين كبيع الخمر بالخنزير والاستئجار على الزنا بالخمر وعلى شهادة الزور بشهادة الزور كما كان بعض الحكام يقول عن طائفة من الرؤساء : يتقارضون شهادة الزور وشبهه بمبادلة القروض . وإما أن يكون مباحا من إحدى الجهتين حراما من الأخرى . وهذا القسم ينبغي لأهل الإسلام أن يعلموه ; فإن الدين والدنيا لا تقوم إلا به .

                [ ص: 182 ] وأما القسم الأول وحده فلا يقوم به إلا دين ضعيف .

                وأما الثالث فتقوم به الدنيا الفاجرة والدين المبتدع . وأما الدين المشروع والدنيا السالمة فلا تقوم إلا بالثالث : مثل إعطاء المؤلفة قلوبهم لجلب منفعتهم أو دفع مضرتهم ورشوة الولاة لدفع الظلم أو تخليص الحق ; لا لمنع الحق وإعطاء من يتقى شر لسانه أو يده من شاعر أو ظالم أو قاطع طريق أو غير ذلك . وإعطاء من يستعان به على البر والتقوى من أعوان وأنصار وولاة وغير ذلك .

                وأصله في الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء الراشدين : أن الله جعل للمؤلفة قلوبهم حقا في الصدقات التي حصر مصارفها في كتابه وتولى قسمها بنفسه وكان هذا تنبيها على أنهم يعطون من المصالح - ومن الفيء على القول الصحيح - التي هي أوسع مصرفا من الزكاة ; فإن كل من جاز أن يعطى من الصدقة أعطي من المصالح ولا ينعكس ; لأن آخذ الصدقة إما أن يأخذ لحاجته أو لمنفعته وكلا الأمرين يؤخذ منهما للمصالح ; بل ليست المصالح إلا ذلك ، والمؤلفة قلوبهم هم من أهل المنفعة الذين هم أحق بمال المصالح والفيء .

                ولهذا أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم من الفيء والمغانم كما [ ص: 183 ] فعله بالذهيبة التي بعث بها علي من اليمن . وكما فعل في مغانم حنين حيث قسمها بين رؤساء قريش وأهل نجد وقال : { إني لأعطي رجالا وأدع من هو أحب إلي منهم . أعطي رجالا لما في قلوبهم من الهلع والجزع وأكل رجالا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير } وقال : { إني لأعطي أحدهم العطية فيخرج بها يتأبطها نارا . قالوا : يا رسول الله فلم تعطيهم قال : يأبون إلا أن يسألوني ويأبى الله لي البخل } . وقال : { والذي نفسي بيده ما من رجل يسألني المسألة فتخرج له المسألة ما لم نكن نريد أن نعطيه إياه فيبارك له فيه } " أو كلاما هذا معناه .

                وهذا القسم يشتمل على الأقسام الثلاثة : أما المال بالأعيان فمنه افتكاك الأسرى والأحرار من أيدي الكفار والغاصبين ; فإن المسلم الحر قد يستولي عليه الكفار وقد يستولي عليه الفجار ; إما باستعباده ظلما أو بعتقه وجحود عتقه . وإما باستعماله بغير اختياره ولا إذن الشارع : مثل من يسخر الصناع كالخياطين والفلاحين بغير حق . وإما بحبسه ظلما وعدوانا فكل آدمي قهر آدميا بغير حق ومنعه عن التصرف . فالقاهر يشبه الآسر والمقهور يشبه الأسير وكذلك القهر بحق أسير . قال { النبي صلى الله عليه وسلم للغريم الذي لزم غريمه : ما فعل أسيرك ؟ .

                } [ ص: 184 ] وإذا كان الاستيلاء على الأموال إذا لم يكن بحق فهو غصب وإن دخل في ذلك الخيانة والسرقة فكذلك الاستيلاء على النفوس بغير حق أسر . وإن دخل فيه استيلاء الظلمة من أهل القبلة .

                وكذلك افتكاك الأنفس الرقيقة من يد من يتعدى عليها ويظلمها فإن الرق المشروع له حد فالزيادة عليه عدوان .

                ويدخل في ذلك افتكاك الزوجة من يد الزوج الظالم ; فإن النكاح رق كما دل عليه الكتاب والسنة قال الله تعالى : { وألفيا سيدها لدى الباب } وقال النبي صلى الله عليه وسلم في النساء : { إنهن عندكم عوان } . وقال عمر : النكاح رق فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته . وكذلك افتكاك الغلام والجارية من يد الظالم كالذي يمنعه الواجب ويفعل معه المحرم .

                ومنه افتكاك الأموال من أيدي الغاصبين لها ظلما أو تأويلا كالمال المغصوب والمسروق وغيرهما إذا دفع للظالم شيء حتى يرده على صاحبه . وسواء كان الدفع في كلا القسمين دفعا للقاهر حتى لا يقهر ولا يستولي كما يهادن أهل الحرب عند الضرورة بمال يدفع إليهم أو استنقاذا من القاهر بعد القهر والاستيلاء . [ ص: 185 ]

                التالي السابق


                الخدمات العلمية