الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 109 ] إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى .

هذا تحويل عن خطاب المشركين الذي كان ابتداؤه من أول السورة وهو من ضروب الالتفات ، وهو استئناف بياني فضمير " يتبعون " عائد إلى الذين كان الخطاب موجها إليهم .

أعقب نفي أن تكون لهم حجة على الخصائص التي يزعمونها لأصنامهم أو على أن الله سماهم بتلك الأسماء بإثبات أنهم استندوا فيما يزعمونه إلى الأوهام وما تحبه نفوسهم من عبادة الأصنام ومحبة سدنتها ومواكب زيارتها ، وغرورهم بأنها تسعى في الوساطة لهم عند الله تعالى بما يرغبونه في حياتهم فتلك أوهام وأماني محبوبة لهم يعيشون في غرورها .

وجيء بالمضارع في يتبعون للدلالة على أنهم سيستمرون على اتباع الظن وما تهواه نفوسهم وذلك يدل على أنهم اتبعوا ذلك من قبل بدلالة لحن الخطاب أو فحواه .

وأصل الظن الاعتقاد غير الجازم ، ويطلق على العلم الجازم إذا كان متعلقا بالمغيبات كما في قوله تعالىالذين يظنون أنهم ملاقو ربهم في سورة البقرة ، وكثر إطلاقه في القرآن على الاعتقاد الباطل كقوله تعالى إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون في سورة الأنعام ، ومنه قول النبيء - صلى الله عليه وسلم - إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وهو المراد هنا بقرينة عطف وما تهوى الأنفس عليه كما عطف وإن هم إلا يخرصون على نظيره في سورة الأنعام ، وهو كناية عن الخطإ باعتبار لزومه له غالبا كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم .

وهذا التفنن في معاني الظن في القرآن يشير إلى وجوب النظر في الأمر المظنون حتى يلحقه المسلم بما يناسبه من حسن أو ذم على حسب الأدلة ؛ ولذلك استنبط علماؤنا أن الظن لا يغني في إثبات أصول الاعتقاد وأن الظن الصائب تناط به تفاريع الشريعة .

[ ص: 110 ] والمراد بما تهوى الأنفس : ما لا باعث عليه إلا الميل الشهواني ، دون الأدلة فإن كان الشيء المحبوب قد دلت الأدلة على حقيقته فلا يزيده حبه إلا قبولا كما قال النبيء - صلى الله عليه وسلم - ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه ، ورجل قلبه معلق بالمساجد وقال وجعلت قرة عيني في الصلاة .

فمناط الذم في هذه الآية هو قصر اتباعهم على ما تهواه أنفسهم .

ثم إن للظن في المعاملات بين الناس والأخلاق النفسانية أحكاما ومراتب غير ما له في الديانات أصولها وفروعها ، فمنه محمود ومنه مذموم ، كما قال تعالى إن بعض الظن إثم وقيل : الحزن سوء الظن بالناس .

والتعريف في الأنفس عوض عن المضاف إليه ، أي : وما تهواه أنفسهم و ما موصولة .

وعطف وما تهوى الأنفس على الظن عطف العلة على المعلول ، أي : الظن الذي يبعثهم على اتباعهم أنه موافق لهداهم وإلفهم .

وجملة ولقد جاءهم من ربهم الهدى حالية مقررة للتعجيب من حالهم ، أي : يستمرون على اتباع الظن والهوى في حال أن الله أرسل إليهم رسولا بالهدى .

ولام القسم لتأكيد الخبر للمبالغة فيما يتضمنه من التعجيب من حالهم كأن المخاطب يشك في أنه جاءهم ما فيه هدى مقنع لهم من جهة استمرارهم على ضلالهم استمرارا لا يظن مثله بعاقل .

والتعبير عن الجلالة بعنوان ربهم لزيادة التعجيب من تصاممهم عن سماع الهدى مع أنه ممن تجب طاعته فكان ضلالهم مخلوطا بالعصيان والتمرد على خالقهم .

والتعريف في الهدى للدلالة على معنى الكمال ، أي : الهدى الواضح .

التالي السابق


الخدمات العلمية