الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
المسلك ( الثالث ) من مسالك العلة وهي الطرق الدالة على العلية ( السبر والتقسيم ، وهو حصر الأوصاف ) في الأصل المقيس عليه ( وإبطال ما لا يصلح ) بدليل ( فيتعين ) أن يكون ( الباقي علة ) والسبر في اللغة : هو الاختبار ، فالتسمية بمجموع الاسمين واضحة . وقد يقتصر على " السبر " فقط . والتقسيم مقدم في الوجود عليه ; لأنه تعداد الأوصاف التي يتوهم صلاحيتها للتعليل ثم يسبرها ، أي يختبرها ليميز الصالح للتعليل من غيره ، فكان الأولى أن يقال : التقسيم والسبر ; لأن الواو - وإن لم تدل على الترتيب - لكن البداءة بالمقدم أجود . وأجيب عنه . بأن السبر - وإن تأخر عن التقسيم - فهو متقدم عليه أيضا ; لأنه أولا يسبر المحل ، هل فيه أوصاف أم لا ؟ ثم يقسم ، ثم يسبر ثانيا ، فقدم " السبر " في اللفظ باعتبار السبر الأول . وأجيب أيضا بأن المؤثر في معرفة العلية إنما هو السبر ، وأما التقسيم : فإنما هو لاحتياج السبر إلى شيء يسبر . وربما سمي ب " التقسيم الحاصر " ( ويكفي المناظر ) في بيان الحصر إذا منع أن يقول ( بحثت فلم أجد غيره ) أي غير هذا الوصف ( أو ) أن يقول ( الأصل عدمه ) أي عدم غير هذا الوصف . ويقبل قوله ; لأنه ثقة أهل للنظر ; ولأن الأوصاف العقلية والشرعية لو كانت لما خفيت على الباحث عنها ، مثاله : أن يقول في قياس الذرة على البر في الربوية : بحثت عن أوصاف البر ، فما وجدت ما يصلح علة للربوية في بادئ الرأي ، إلا الطعم أو القوت أو الكيل ، لكن الطعم والقوت لا يصلح لذلك عند التأمل ، فيتعين الكيل ، أو يقول : الأصل عدم ما سواها . فإن بذلك يحصل الظن المقصود ( فإن بين المعترض وصفا آخر ) غير ما ادعاه المستدل ( لزم ) المستدل ( إبطاله ) إذ لا يثبت الحصر الذي قد ادعاه بدونه .

( ولا يلزم المعترض ) بإبداء وصف زائد على الأوصاف التي ذكرها المستدل ( بيان صلاحيته ) أي الوصف الذي ذكره ( للتعليل ) وعلى المستدل إبطال صلاحيته للتعليل ; لأن دليله لا يتم إلا بذلك ( ولا ينقطع المستدل إلا بعجزه عن إبطاله ) أي إبطال ما ذكره المعترض من [ ص: 517 ] الوصف ، لا بمجرد إبداء المعترض الوصف ، وإلا كان كل منع قطعا ، والاتفاق على خلافه . فإذا أبطل المستدل ما ذكره المعترض من الوصف بطل قاله العضد ، والحق أنه إذا أبطله فقد سلم حصره ، وكان له أن يقول : هذا مما علمت أنه لا يصلح ، فلم أدخله في حصري . وأيضا فإنه لم يدع الحصر قطعا . بل قال : إني ما وجدت ، أو أظن العدم ، وهو فيه صادق ، فيكون كالمجتهد إذا ظهر له ما كان خافيا [ عليه ] ، وإنه غير مستنكر . انتهى .

( والمجتهد يعمل بظنه ) يعني أن المستدل إذا كان مجتهدا فإنه يجب عليه العمل بظنه ، فيرجع إليه ، ويكون مؤاخذا بما اقتضاه ظنه فيلزمه الأخذ به ، ولا يكابر نفسه ( ومتى كان الحصر ) أي حصر الأوصاف من جهة المستدل ( والإبطال ) من جهة المعترض ( قطعيا فالتعليل ) بذلك ( قطعي ) بلا خلاف ، ولكن هذا قليل في الشرعيات ( وإلا ) أي وإن لم يكن الحصر والإبطال قطعيا ، بل كان أحدهما ظنيا ، أو كلاهما وهو الأغلب ( ف ) التعليل ( ظني ) أي لا يفيد إلا الظن ، ويعمل به فيما لا يتعبد فيه بالقطع من العقائد ونحوها ( ومن طرق الحذف ) يعني أن من طرق إبطال المستدل لما يدعيه المعترض من دعوى وصف يصلح للتعليل غير ما ذكره المستدل : بحذفه عنه ( الإلغاء ) ، ( وهو ) أي الإلغاء ( إثبات الحكم ب ) الوصف ( الباقي فقط في صورة ، ولم يثبت دونه ، فيظهر استقلاله ) وحده . ويعلم أن المحذوف لا أثر له . وقال الآمدي : لا يكفي ذلك في استقلاله بدون طريق من طرق إثبات العلة ، وإلا لكفى في أصل القياس ، فإن ثبت في صورة الإلغاء بالسبر فالأصل الأول تطويل بلا فائدة .

وإن بينه بطريق آخر ، لزم محذور آخر ، وهو الانتقال ( ونفي العكس كالإلغاء لا عينه ) يعني : أن نفي العكس يشبه الإلغاء . وليس بإلغاء ; لأنه لم يقصد في الإلغاء لو كان المخذوف علة لانتفى عند انتفائه ، بل قصد : لو أن الباقي جزء علة لما استقل ( ومنها ) أي ومن طرق الحذف ( طرد المحذوف مطلقا ) أي في جميع أحكام الشرع ( كطول وقصر ) فإنهما لم يعتبرا في القصاص ، ولا الكفارة ، ولا الإرث ، ولا العتق ، ولا التقديم في الصلاة ولا غيرها ، فلا يعلل بهما حكم أصلا ( أو ) ليس [ ص: 518 ] مطلقا ، ولكن ( بالنسبة إلى ذلك الحكم ) وإن اعتبر في غيره ( كالذكورية في ) أحكام ( العتق ) إذ هي ملغاة فيه ، مع كونها معتبرة في الشهادة والقضاء وولاية النكاح والإرث ، فلا يعلل بها شيء من أحكام العتق ( ومنها ) أي ومن طرق الحذف ( عدم ظهور مناسبة ) بأن لا يظهر للوصف المحذوف وجه مناسبة ( ويكفي المناظر ) أن يقول ( بحثت ) فلم أجد بين الوصف والحكم مناسبة ( فلو قال المعترض : الباقي كذلك ) يعني أن الوصف الباقي أيضا ليس بينه وبين الحكم مناسبة .

( فإن كان ) قوله ذلك ( بعد تسليم مناسبته ) أي تسليم مناسبة ما ذكره المستدل ( لم يقبل ) منه ذلك ( وقبله ) أي وإن كان قوله ذلك قبل تسليم مناسبة الوصف الذي ذكره المستدل ، ف ( سبر المستدل أرجح ) من سبر المعترض ; لأن سبر المستدل موافق لتعدية الحكم ، وسبر المعترض ، وهو قوله : إني بحثت في الوصف المستبقى فلم أجد فيه مناسبة قاصر . والعلة المتعدية أرجح من القاصرة ( وليس له ) أي للمستدل ( بيان المناسبة ) بين الوصف الباقي والحكم ; لأنه حينئذ انتقال من السبر إلى المناسبة ( والسبر الظني حجة مطلقا أي سواء كان من ناظر أو مناظر ولو أفسد حنبلي علة شافعي ) في الربا أو غيره ( لم يدل على صحة علته ) أي علة الحنبلي ، كتعليل بعض الفقهاء بغير العلة التي علل بها الشافعي والحنبلي ، وليس إجماعهما دليلا على من خالفهما ( لكنه ) أي لكن إفساد علة الشافعي الذي هو الخصم ( طريق لإبطال مذهب خصمه ، وإلزام له ) أي للشافعي ( صحة علته ) أي علة الحنبلي ( ولكل حكم علة تفضلا ) عند الفقهاء ، ووجوبا عند المعتزلة ; لأن الدليل الدال على جواز العمل بالسبر وتخريج المناط وغيرهما كون الحكم لا بد له من علة لقوله تعالى { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } والظاهر منه : تعميم الرحمة في جميع ما جاء به ، وحينئذ لم تخل الأحكام عن فائدة ، وهي العلة .

قال أبو الخطاب : كلها معللة وتخفى نادرا .

قال القاضي : التعليل الأصل ، وترك نادرا ; لأن تعقل العلة أقرب إلى القبول من التعبد ; ولأنه المألوف عرفا . والأصل موافقة الشرع له ، فيحمل ما نحن فيه [ ص: 519 ] على الغالب ( ويجب العمل بالظن فيها ) أي في علل الأحكام ( إجماعا ) وقيل : الأصل عدم التعليل ; لأن الموجب الصيغة ، وبالتعليل ينتقل حكمه إلى معناه ، فهو كالمجاز من الحقيقة .

التالي السابق


الخدمات العلمية