الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أم خلقوا من غير شيء .

إضراب انتقالي إلى إبطال ضرب آخر من شبهتهم في إنكارهم البعث ، وقد علمت في أول السورة أن من أغراضها إثبات البعث والجزاء على أن ما جاء بعده من وصف يوم الجزاء وحال أهله قد اقتضته مناسبات نشأت عنها تلك التفاصيل ، فإذ وفي حق ما اقتضته تلك المنسبات ثني عنان الكلام إلى الاستدلال على إمكان البعث وإبطال شبهتهم التي تعللوا بها من نحو قولهم أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا .

فكان قوله تعالى أم خلقوا من غير شيء الآيات أدلة على أن ما خلقه الله من بدء الخلق أعظم من إعادة خلق الإنسان . وهذا متصل بقوله آنفا إن عذاب ربك لواقع ؛ لأن شبهتهم المقصود ردها بقوله إن عذاب ربك لواقع هي قولهم أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون ، ونحو ذلك .

فحرف " من " في قوله من غير شيء يجوز أن يكون للابتداء ، فيكون معنى الاستفهام المقدر بعد أم تقريريا . والمعنى : أيقرون أنهم خلقوا بعد أن كانوا عدما فكلما خلقوا من عدم في نشأتهم الأولى ينشئون من عدم في النشأة الآخرة ، وذلك إثبات لإمكان البعث فيكون في معنى قوله تعالى فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب إنه على رجعه لقادر [ ص: 68 ] وقوله كما بدأنا أول خلق نعيده ونحو ذلك من الآيات .

ومعنى " شيء " على هذا الوجه : الموجود ، فغير شيء : المعدوم ، والمعنى : أخلقوا من عدم . ويجوز أن تكون من للتعليل فيكون الاستفهام المقدر بعد أم إنكاريا ، ويكون اسم شيء صادقا على ما يصلح لمعنى التعليل المستفاد من حرف من التعليلية ، والمعنى : إنكار أن يكون خلقهم بغير حكمة ، وهذا إثبات أن البعث واقع لأجل الجزاء على الأعمال ، بأن الجزاء مقتضى الحكمة التي لا يخلو عنها فعل أحكم الحكماء ، فيكون في معنى قوله تعالى أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون وقوله وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية .

ولحرف " من " في هذا الكلام الوقع البديع إذ كانت على احتمال معنييها دليلا على إمكان البعث وعلى وقوعه وعلى وجوب وقوعه وجوبا تقتضيه الحكمة الإلهية العليا . ولعل العدول عن صوغ الكلام بالصيغة الغالبة في الاستفهام التقريري ، أعني صيغة النفي بأن يقال : أما خلقوا من غير شيء ; والعدول عن تعيين ما أضيف إليه ( غير ) إلى الإتيان بلفظ مبهم وهو لفظ شيء ، روعي فيه الصلاحية لاحتمال المعنيين وذلك من منتهى البلاغة .

وإذا كان فرض أنهم خلقوا من غير شيء واضح البطلان لم يحتج إلى استدلال على إبطاله بقوله :

التالي السابق


الخدمات العلمية