الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين فقربه إليهم قال ألا تأكلون فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم

انتقال من الإنذار والموعظة والاستدلال إلى الاعتبار بأحوال الأمم الماضية المماثلة للمخاطبين المشركين في الكفر وتكذيب الرسل . والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا وغير أسلوب الكلام من خطاب المنذرين مواجهة إلى أسلوب التعريض تفننا بذكر قصة إبراهيم لتكون توطئة للمقصود من ذكر ما حل بقوم لوط حين كذبوا رسولهم ، فالمقصود هو ما بعد قوله : قال فما خطبكم أيها المرسلون .

وكان في الابتداء بذكر قوم لوط في هذه الآية على خلاف الترتيب الذي جرى عليه اصطلاح القرآن في ترتيب قصص الأمم المكذبة بابتدائها بقوم نوح ثم عاد ثم ثمود ثم قوم لوط أن المناسبة للانتقال من وعيد المشركين إلى العبرة بالأمم الماضية أن [ ص: 357 ] المشركين وصفوا آنفا بأنهم في غمرة ساهون فكانوا في تلك الغمرة أشبه بقوم لوط إذ قال الله فيهم لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون ، ولأن العذاب الذي عذب به قوم لوط كان حجارة أنزلت عليهم من السماء مشبهة بالمطر . وقد سميت مطرا في قوله تعالى : ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء وقوله : وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل ولأن في قصة حضور الملائكة عند إبراهيم وزوجه عبرة بإمكان البعث فقد تضمنت بشارتها بمولود يولد لها بعد اليأس من الولادة . وذلك مثل البعث بالحياة بعد الممات .

ولما وجه الخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم بقوله " هل أتاك " عرف أن المقصود الأصلي تسليته على ما لقيه من تكذيب قومه . ويتبع ذلك تعريض بالسامعين حين يقرأ عليهم القرآن أو يبلغهم بأنهم صائرون إلى مثل ذلك العذاب لاتحاد الأسباب .

وتقدم القول في نظير " هل أتاك حديث " عند قوله تعالى : وهل أتاك نبأ الخصم في سورة ص ، وأنه يفتتح به الأخبار الفخمة المهمة .

والضيف : اسم يقال للواحد وللجمع لأن أصله مصدر ضاف ، إذا مال فأطلق على الذي يميل إلى بيت أحد لينزل عنده . ثم صار اسما فإذا لوحظ أصله أطلق على الواحد وغيره ولم يؤنثوه ولا يجمعونه وإذا لوحظ الاسم جمعوه للجماعة وأنثوه للأنثى فقالوا أضياف وضيوف وامرأة ضيفة وهو هنا اسم جمع ولذلك وصف بـ " المكرمين " ، وتقدم في سورة الحجر قال إن هؤلاء ضيفي .

والمعني به الملائكة الذين أظهرهم الله لإبراهيم عليه السلام فأخبروه بأنهم مرسلون من الله لتنفيذ العذاب لقوم لوط وسماهم الله ضيفا نظرا لصورة مجيئهم في هيئة الضيف كما سمى الملكين اللذين جاءا داود خصما في قوله تعالى : وهل أتاك نبأ الخصم ، وذلك من الاستعارة الصورية .

وفي سفر التكوين من التوراة : أنهم كانوا ثلاثة . وعن ابن عباس : أنهم جبريل وميكائيل وإسرافيل . وعن عطاء : جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر .

ولعل سبب إرسال ثلاثة ليقع تشكلهم في شكل الرجال لما تعارفه الناس في أسفارهم أن لا يقل ركب المسافرين عن ثلاثة رفاق . وذلك أصل جريان المخاطبة [ ص: 358 ] بصيغة المثنى في نحو : ( قفا نبك ) . وفي الحديث : الواحد شيطان والاثنان شيطانان والثلاثة ركب . رواه الحاكم في المستدرك وذكر أن سنده صحيح .

وقد يكون سبب إرسالهم ثلاثة أن عذاب قوم لوط كان بأصناف مختلفة لكل صنف منها ملكه الموكل به .

ووصفهم بالمكرمين كلام موجه لأنه يوهم أن ذلك لإكرام إبراهيم إياهم كما جرت عادته مع الضيف وهو الذي سن القرى ، والمقصود : أن الله أكرمهم برفع الدرجة لأن الملائكة مقربون عند الله تعالى كما قال بل عباد مكرمون وقال كراما كاتبين .

وظرف " إذ دخلوا عليه " يتعلق بـ " حديث " لما فيه من معنى الفعل ، أي خبرهم حين دخلوا عليه .

وقوله فقالوا سلاما قال سلام تقدم نظيره في سورة هود . وقرأ الجمهور " قال سلام " . وقرأه حمزة والكسائي قال سلم " بكسر السين وسكون اللام .

وقوله قوم منكرون من كلام إبراهيم . والظاهر أنه قاله خفتا إذ ليس من الإكرام أن يجاهر الزائر بذلك ، فالتقدير : هم قوم منكرون .

والمنكر : الذي ينكره غيره ، أي لا يعرفه . وأطلق هنا على من ينكر حاله ويظن أنه حال غير معتاد ، أي يخشى أنه مضمر سوء ، كما قال في سورة هود فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة ومنه قول الأعشى :


وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا



أي كرهت ذاتي

وقصة ضيف إبراهيم تقدمت في سورة هود .

و " راغ " مال في المشي إلى جانب ، ومنه : روغان الثعلب . والمعنى : أن إبراهيم حاد عن المكان الذي نزل فيه الضيوف إلى أهله ، أي إلى بيته الذي فيه أهله .

[ ص: 359 ] وفي التوراة : أنه كان جالسا أمام باب خيمته تحت شجرة وأنه أنزل الضيوف تحت الشجرة .

وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : إن الروغان ميل في المشي عن الاستواء إلى الجانب مع إخفاء إرادته ذلك وتبعه على هذا التقييد الراغب والزمخشري وابن عطية فانتزع منه الزمخشري أن إخفاء إبراهيم ميله إلى أهله من حسن الضيافة كيلا يوهم الضيف أنه يريد أن يحضر لهم شيئا فلعل الضيف أن يكفه عن ذلك ويعذره وهذا منزع لطيف .

وكان منزل إبراهيم الذي جرت عنده هذه القصة بموضع يسمى ( بلوطات ممرا ) من أرض جبرون .

ووصف العجل هنا بـ " سمين " ، ووصف في سورة هود بحنيذ ، أي مشوي فهو عجل سمين شواه وقربه إليهم ، وكان الشوا أسرع طبخ أهل البادية وقام امرؤ القيس يذكر الصيد :


فظل طهاة اللحم ما بين منضج     صفيف شواء أو قدير معجل



فقيد ( قدير ) بـ ( معجل ) ولم يقيد ( صفيف شواء ) لأنه معلوم .

ومعنى " قربه " وضعه قريبا منهم ، أي لم ينقلهم من مجلسهم إلى موضع آخر بل جعل الطعام بين أيديهم . وهذا من تمام الإكرام للضيف بخلاف ما يطعمه العافي والسائل فإنه يدعى إلى مكان الطعام كما قال الفرزدق :


فقلت إلى الطعام فقال منهم     فريق يحسد الأنس الطعاما



ومجيء الفاء لعطف أفعال " فراغ " ، " فجاء " ، " فقربه " للدلالة على أن هذه الأفعال وقعت في سرعة ، والإسراع بالقرى من تمام الكرم ، وقد قيل : خير البر عاجله .

وجملة قال ألا تأكلون بدل اشتمال من جملة قربه إليهم .

و ( ألا ) كلمة واحدة ، وهي حرف عرض ، أي رغبة في حصول الفعل الذي تدخل عليه . وهي هنا متعينة للعرض لوقوع فعل القول بدلا من فعل قربه إليهم ، [ ص: 360 ] ولا يحسن جعلها كلمتين من همزة استفهام للإنكار مع ( لا ) النافية .

والعرض على الضيف عقب وضع الطعام بين يديه زيادة في الإكرام بإظهار الحرص على ما ينفع الضيف وإن كان وضع الطعام بين يديه كافيا في تمكينه منه . وقد اعتبر ذلك إذنا عند الفقهاء في الدعوة إلى الولائم بخلاف مجرد وجود مائدة طعام أو سفرة ، إذ يجوز أن تكون قد أعدت لغير المدعو .

والفاء في فأوجس منهم خيفة فصيحة لإفصاحها عن جملة مقدرة يقتضيها ربط المعنى ، أي فلم يأكلوا فأوجس منهم خيفة ، كقوله : أن اضرب بعصاك البحر فانفلق ، وقد صرح بذلك في سورة هود فلما رأى أيديهم لا تصل إليه أي إلى العجل نكرهم وأوجس منهم خيفة .

و " أوجس " أحس في نفسه ولم يظهر ، وتقدم نظيره في سورة هود .

وقولهم له " لا تخف " لأنهم علموا ما في نفسه مما ظهر على ملامحه من الخوف ، وتقدم نظيره في سورة هود .

والغلام الذي بشروه به هو إسحاق لأنه هو ابن سارة ، وهو الذي وقعت البشارة به في هذه القصة في التوراة ، ووصف هنا بـ " عليم " ، وأما الذي ذكرت البشارة به في سورة الصافات فهو إسماعيل ووصف بـ " حليم " ولذلك فامرأة إبراهيم الحادث عنها هنا هي سارة ، وهي التي ولدت بعد أن أيست ، أما هاجر فقد كانت فتاة ولدت في مقتبل عمرها . وأقبلت امرأته حين سمعت البشارة لها بغلام ، أي أقبلت على مجلسإبراهيم مع ضيفه ، قال تعالى في سورة هود وامرأته قائمة .

وكان النساء يحضرن مجالس الرجال في بيوتهن مع أزواجهن ويواكلنهم . وفي الموطأ " قال مالك : لا بأس أن تحضر المرأة مع زوجها وضيفه وتأكل معهم " .

والصرة : الصياح ، ومنه اشتق الصرير .

و ( في ) للظرفية المجازية وهي الملابسة .

والصك : اللطم ، وصك الوجه عند التعجب عادة النساء أيامئذ . ونظيره [ ص: 361 ] وضع اليد على الفم في قوله تعالى : فردوا أيديهم في أفواههم .

وقولها " عجوز عقيم " خبر لمبتدأ محذوف ، أي أنا عجوز عقيم .

والعجوز : فعول بمعنى فاعل وهو يستوي في المذكر والمؤنث مشتق من العجز ويطلق على كبر السن لملازمة العجز له غالبا .

والعقيم : فعيل بمعنى مفعول ، وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث إذا جرى على موصوف مؤنث ، مشتق من عقمها الله ، إذا خلقها لا تحمل بجنين ، وكانت سارة لم تحمل قط .

وقول الملائكة " كذلك قال ربك " الإشارة إلى الحادث وهو التبشير بغلام .

والكاف للتشبيه ، أي مثل قولنا : قال ربك فنحن بلغنا ما أمرنا بتبليغه .

وجملة " إنه هو الحكيم العليم " تعليل لجملة " كذلك قال ربك " المقتضية أن الملائكة ما أخبروا إبراهيم إلا تبليغا من الله وأن الله صادق وعده وأنه لا موقع لتعجب امرأة إبراهيم لأن الله حكيم يدبر تكوين ما يريده ، وعليم لا يخفى عليه حالها من العجز والعقم .

وهذه المحاورة بين الملائكة وسارة امرأة إبراهيم وقع مثلها بينهم وبين إبراهيم كما قص في سورة الحجر ، فحكي هنا ما دار بينهم وبين سارة ، وحكي هناك ما دار بينهم وبين إبراهيم والمقام واحد ، والحالة واحدة كما بين في سورة هود قالت يا ويلتا آلد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب .

التالي السابق


الخدمات العلمية