الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج

عطف على جملة " أفلم ينظروا " عطف الخبر على الاستفهام الإنكاري وهو في معنى الإخبار . والتقدير : ومددنا الأرض .

ولما كانت أحوال الأرض نصب أعين الناس وهي أقرب إليهم من أحوال السماء [ ص: 288 ] لأنها تلوح للأنظار دون تكلف لم يؤت في لفت أنظارهم إلى دلالتها باستفهام إنكاري تنزيلا لهم منزلة من نظر في أحوال الأرض فلم يكونوا بحاجة إلى إعادة الأخبار بأحوال الأرض تذكيرا لهم .

وانتصب " الأرض " بـ " مددناها " على طريقة الاشتغال .

والمد : البسط ، أي بسطنا الأرض فلم تكن مجموع نتوءات إذ لو كانت كذلك لكان المشي عليها مرهقا .

والمراد : بسط سطح الأرض وليس المراد وصف حجم الأرض لأن ذلك لا تدركه المشاهدة ولم ينظر فيه المخاطبون نظر التأمل فيستدل عليهم بما لا يعلمونه فلا يعتبر في سياق الاستدلال على القدرة على خلق الأمور العظيمة ، ولا في سياق الامتنان بما في ذلك الدليل من نعمة فلا علاقة لهذه الآية بقضية كروية الأرض .

والإبقاء : تمثيل لتكوين أجسام بارزة على الأرض متباعد بعضها عن بعض لأن حقيقة الإلقاء : رمي شيء من اليد إلى الأرض ، وهذا استدلال بخلقة الجبال كقوله : وإلى الجبال كيف نصبت . و " فيها " ظرف مستقر وصف لـ " رواسي " قدم على موصوفه فصار حالا ، ويجوز أن يكون ظرفا لغوا متعلقا بـ " ألقينا " .

ورواسي : جمع راس على غير قياس مثل : فوارس وعواذل .

والرسو : الثبات والقرار .

وفائدة هذا الوصف زيادة التنبيه إلى بديع خلق الله إذ جعل الجبال متداخلة مع الأرض ولم تكن موضوعة عليها وضعا كما توضع الخيمة لأنها لو كانت كذلك لتزلزلت وسقطت وأهلكت ما حواليها .

وقد قال في سورة الأنبياء وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم أي دفع أن تميد هي ، أي الجبال بكم ، أي ملصقة بكم في ميدها ، وهنالك وجه آخر مضى في سورة الأنبياء .

والزوج : النوع من الحيوان والثمار والنبات ، وتقدم في قوله تعالى : فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى في سورة طه .

[ ص: 289 ] والمعنى : وأنبتنا في الأرض أصناف النبات وأنواعه .

وقوله : " من كل زوج " يظهر أن حرف ( من ) فيه مزيد للتوكيد . وزيادة ( من ) في غير النفي نادرة ، أي أقل من زيادتها في النفي ، ولكن زيادتها في الإثبات واردة في الكلام الفصيح ، فأجاز القياس عليه نحاة الكوفة والأخفش وأبو علي الفارسي وابن جني ، ومنه قوله تعالى : وينزل من السماء من جبال فيها من برد إن المعنى : ينزل من السماء جبالا فيها برد ، وقد تقدم ذلك في قوله تعالى : ومن النخل من طلعها في سورة الأنعام .

فالمقصود من التوكيد بحرف ( من ) تنزيلهم منزلة من ينكر أن الله أنبت ما على الأرض من أنواع حين ادعوا استحالة إخراج الناس من الأرض ، ولذلك جيء بالتوكيد في هذه الآية لأن الكلام فيها على المشركين ولم يؤت بالتوكيد في آية سورة طه .

وليست ( من ) هنا للتبعيض إذ ليس المعنى عليه .

فكلمة ( كل ) مستعملة في معنى الكثرة كما تقدم في قوله تعالى : وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها في سورة الأنعام ، وقوله فيها وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها ، وهذا كقوله تعالى : فأنبتنا به أزواجا من نبات شتى في سورة طه .

وفائدة التكثير هنا التعريض بهم لقلة تدبيرهم إذ عموا عن دلائل كثيرة واضحة بين أيديهم .

والبهيج يجوز أن يكون صفة مشبهة ، يقال : بهج بضم الهاء ، إذا حسن في أعين الناظرين ، فالبهيج بمعنى الفاعل كما دل عليه قوله تعالى : فأنبتنا به حدائق ذات بهجة .

ويجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول ، أي منبهج به على الحذف والإيصال ، أي يسر به الناظر ، يقال : بهجه من باب منع ، إذا سره ، ومنه الابتهاج المسرة .

وهذا الوصف يفيد ذكره تقوية الاستدلال على دقة صنع الله تعالى ، وإدماج الامتنان عليهم بذلك ليشكروا النعمة ولا يكفروها بعبادة غيره كقوله تعالى [ ص: 290 ] والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون .

التالي السابق


الخدمات العلمية