الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 187 ] هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله

استئناف انتقل به من مقام الثناء على المؤمنين الذين بايعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما اكتسبوا بتلك البيعة من رضا الله - تعالى - وجزائه ثواب الآخرة ، وخير الدنيا عاجله وآجله ، وضمان النصر لهم في قتال المشركين ، وما هيأ لهم من أسباب النصر إلى تعيير المشركين بالمذمة التي أتوا بها وهي صد المسلمين عن المسجد الحرام وصد الهدي عن أن يبلغ به إلى أهله ، فإنها سبة لهم بين العرب وهم أولى الناس بالحفاوة بمن يعتمرون ، وهم يزعمون أنهم أهل حرم الله زواره ومعظموه ، وقد كان من عادتهم قبول كل زائر للكعبة من جميع أهل الأديان ، فلا عذر لهم في منع المسلمين ولكنهم حملتهم عليه الحمية .

وضمير الغيبة المفتتح به عائد إلى الذين كفروا من قوله ولو قاتلوكم الذين كفروا لولوا الأدبار الآية .

والمقصود بالافتتاح بضميرهم هنا لاسترعاء السمع لما يرد بعده من الخبر كما إذا جره حديث عن بطل في يوم من أيام العرب ثم قال قائل عنترة هو البطل المحامي .

والمقصود من الصلة هو جملة صدوكم عن المسجد الحرام وذكر ( الذين كفروا ) إدماج للنداء عليهم بوصف الكفر . ولهذا الإدماج نكتة أيضا ، وهي أن وصف الذين كفروا بمنزلة الجنس صار الموصول في قوة المعرف بلام الجنس فتفيد جملة هم الذين كفروا قصر جنس الكفر على هذا الضمير لقصد المبالغة لكمالهم في الكفر بصدهم المعتمرين عن المسجد الحرام وصد الهدي عن أن يبلغ محله .

والهدي : ما يهدى إلى الكعبة من الأنعام ، وهو من التسمية باسم المصدر ولذلك يستوي فيه الواحد والجمع كحكم المصدر قال - تعالى - والهدي والقلائد أي الأنعام المهدية وقلائدها وهو هنا الجمع .

والمعكوف : اسم مفعول ( عكف ) ، إذ ألزمه المكث في مكان ، يقال : عكفه فعكف فيستعمل قاصرا ومتعديا عن ابن سيده وغيره كما يقال : رجعه فرجع [ ص: 188 ] وجبره فجبر . وقال أبو علي الفارسي : لا أعرف عكف متعديا ، وتأول صيغة المفعول في قوله - تعالى - ( معكوفا ) على أنها لتضمين عكف معنى حبس .

وفائدة ذكر هذا الحال التشنيع على الذين كفروا في صدهم المسلمين عن البيت بأنهم صدوا الهدايا أن تبلغ محلها حيث اضطر المسلمون أن ينحروا هداياهم في الحديبية فقد عطلوا بفعلهم ذلك شعيرة من شعائر الله ، ففي ذكر الحال تصوير لهيئة الهدايا وهي محبوسة .

ومعنى صدهم الهدي : أنهم صدوا أهل الهدي عن الوصول إلى المنحر من منى . وليس المراد : أنهم صدوا الهدايا مباشرة لأنه لم ينقل أن المسلمين عرضوا على المشركين تخلية من يذهب بهداياهم إلى مكة لتنحر بها .

وقوله " أن يبلغ محله " أن يكون بدل اشتمال من الهدي ويجوز أن يكون معمولا لحرف جر محذوف وهو ( عن ) ، أي عن أن يبلغ محله .

والمحل بكسر الحاء : محل الحل مشتق من فعل حل ضد حرم ، أي المكان الذي يحل فيه نحر الهدي ، وهو الذي لا يجزئ غيره ، وذلك بمكة بالمروة بالنسبة للمعتمر ، ولذلك لما أحصروا أمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينحروا هديهم في مكانهم إذ تعذر إبلاغه إلى مكة لأن المشركين منعوهم من ذلك . ولم يثبت في السنة أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بتوخي جهة معينة للنحر من أرض الحديبية ، وذلك من سماحة الدين فلا طائل من وراء الخوض في اشتراط النحر في أرض الحرم للمحصر .

التالي السابق


الخدمات العلمية