الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( فأرسل فرعون في المدائن حاشرين ( 53 ) إن هؤلاء لشرذمة قليلون ( 54 ) وإنهم لنا لغائظون ( 55 ) وإنا لجميع حاذرون ( 56 ) )

يقول تعالى ذكره : فأرسل فرعون في المدائن يحشر له جنده وقومه ويقول لهم ( إن هؤلاء ) يعني بهؤلاء : بني إسرائيل ( لشرذمة قليلون ) يعني بالشرذمة : الطائفة والعصبة الباقية من عصب جبيرة ، وشرذمة كل شيء : بقيته القليلة ; ومنه قول الراجز :


جاء الشتاء وقميصي أخلاق شراذم يضحك منه التواق



وقيل : قليلون ، لأن كل جماعة منهم كان يلزمها معنى القلة ; فلما جمع جمع جماعاتهم قيل : قليلون ، كما قال الكميت :


فرد قواصي الأحياء منهم     فقد صاروا كحي واحدينا

[ ص: 351 ]

وذكر أن الجماعة التي سماها فرعون شرذمة قليلين ، كانوا ست مئة ألف وسبعين ألفا .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة : ( إن هؤلاء لشرذمة قليلون ) ، قال : كانوا ست مئة وسبعين ألفا .

قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله ، قال : الشرذمة : ست مئة ألف وسبعون ألفا .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد ، قال : اجتمع يعقوب وولده إلى يوسف ، وهم اثنان وسبعون ، وخرجوا مع موسى وهم ست مئة ألف ، فقال فرعون ( إن هؤلاء لشرذمة قليلون ) ، وخرج فرعون على فرس أدهم حصان على لون فرسه في عسكره ثمان مئة ألف .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا ابن علية ، عن سعيد الجريري ، عن أبي السليل ، عن قيس بن عباد ، قال : وكان من أكثر الناس أو أحدث الناس عن بني إسرائيل ، قال : فحدثنا أن الشرذمة الذين سماهم فرعون من بني إسرائيل كانوا ست مئة ألف ، قال : وكان مقدمة فرعون سبعة مئة ألف ، كل رجل منهم على حصان على رأسه بيضة ، وفي يده حربة ، وهو خلفهم في الدهم . فلما انتهىموسى ببني إسرائيل إلى البحر ، قالت بنو إسرائيل . يا موسى أين ما وعدتنا ، هذا البحر بين أيدينا ، وهذا فرعون وجنوده قد دهمنا من خلفنا ، فقال موسى للبحر : انفلق أبا خالد ، قال : لا لن أنفلق لك يا موسى ، أنا أقدم منك خلقا ; قال : فنودي أن اضرب بعصاك البحر ، فضربه ، فانفلق البحر ، وكانوا اثني عشر سبطا . قالالجريري . فأحسبه قال : إنه كان لكل سبط طريق ، قال : فلما انتهى أول جنود فرعون إلى البحر ، هابت الخيل اللهب ; قال : ومثل لحصان منها فرس وديق ، فوجد ريحها فاشتد ، فاتبعه الخيل ; قال : فلما تتام آخر جنود فرعون في البحر ، وخرج آخر بني إسرائيل ، أمر البحر فانصفق عليهم ، فقالت بنو إسرائيل : ما مات فرعون وما كان ليموت أبدا ، فسمع الله تكذيبهم نبيه عليه السلام ، قال : فرمى به على الساحل ، كأنه ثور أحمر يتراءاه بنو إسرائيل . [ ص: 352 ]

حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، في قوله : ( إن هؤلاء لشرذمة قليلون ) يعني بني إسرائيل .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ( إن هؤلاء لشرذمة قليلون ) قال : هم يومئذ ست مئة ألف ، ولا يحصى عدد أصحاب فرعون .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : ( وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون ) قال : أوحى الله إلى موسى أن اجمع بني إسرائيل ، كل أربعة أبيات في بيت ، ثم اذبحوا أولاد الضأن ، فاضربوا بدمائها على الأبواب ، فإني سآمر الملائكة أن لا تدخل بيتا على بابه دم ، وسآمرهم بقتل أبكار آل فرعون من أنفسهم وأموالهم ، ثم اخبزوا خبزا فطيرا ، فإنه أسرع لكم ، ثم أسر بعبادي حتى تنتهي للبحر ، فيأتيك أمري ، ففعل ; فلما أصبحوا قال فرعون : هذا عمل موسى وقومه قتلوا أبكارنا من أنفسنا وأموالنا ، فأرسل في أثرهم ألف ألف وخمس مئة ألف وخمس مئة ملك مسور ، مع كل ملك ألف رجل ، وخرج فرعون في الكرش العظمى ، وقال ( إن هؤلاء لشرذمة قليلون ) قال : قطعة ، وكانوا ست مئة ألف ، مئتا ألف منهم أبناء عشرين سنة إلى أربعين .

قال : ثني حجاج ، عن أبي بكر بن حوشب ، عن ابن عباس ، قال : كان مع فرعون يومئذ ألف جبار ، كلهم عليه تاج ، وكلهم أمير على خيل .

قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : كانوا ثلاثين ملكا ساقة خلف فرعون يحسبون أنهم معهم وجبرائيل أمامهم ، يرد أوائل الخيل على أواخرها ، فأتبعهم حتى انتهى إلى البحر ، وقوله : ( وإنهم لنا لغائظون ) يقول : وإن هؤلاء الشرذمة لنا لغائظون ، فذكر أن غيظهم إياهم كان قتل الملائكة من قتلت من أبكارهم .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : ( وإنهم لنا لغائظون ) يقول : بقتلهم أبكارنا من أنفسنا وأموالنا . وقد يحتمل أن يكون معناه : وإنهم لنا لغائظون بذهابهم منهم بالعواري التي كانوا استعاروها منهم من الحلي ، [ ص: 353 ] ويحتمل أن يكون ذلك بفراقهم إياهم ، وخروجهم من أرضهم بكره لهم لذلك .

وقوله ( وإنا لجميع حاذرون ) اختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الكوفة ( وإنا لجميع حاذرون ) بمعنى : أنهم معدون مؤدون ذوو أداة وقوة وسلاح . وقرأ ذلك عامة قراء المدينة والبصرة : " وأنا لجميع حذرون " بغير ألف . وكان الفراء يقول : كأن الحاذر الذي يحذرك الآن ، وكأن الحذر المخلوق حذرا لا تلقاه إلا حذرا ; ومن الحذر قول ابن أحمر :


هل أنسأن يوما إلى غيره     إني حوالي وإني حذر



والصواب من القول في ذلك أنهما قراءتان مستفيضتان في قراء الأمصار متقاربتا المعنى ، فبأيتهما قرأ القارئ ، فمصيب الصواب فيه .

وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، قال : سمعت الأسود بن زيد يقرأ : ( وإنا لجميع حاذرون ) قال : مقوون مؤدون .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا عيسى بن عبيد ، عن أيوب ، عن أبي العرجاء ، عن الضحاك بن مزاحم أنه كان يقرأ : ( وإنا لجميع حاذرون ) يقول : مؤدون . [ ص: 354 ]

حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي في قوله : ( وإنا لجميع حاذرون ) يقول : حذرنا ، قال : جمعنا أمرنا .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : ( وإنا لجميع حاذرون ) قال : مؤدون معدون في السلاح والكراع .

ثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج أبو معشر ، عن محمد بن قيس قال : كان مع فرعون ست مئة ألف حصان أدهم سوى ألوان الخيل .

حدثنا عمرو بن علي ، قال : ثنا أبو داود ، قال : ثنا سليمان بن معاذ الضبي ، عن عاصم ابن بهدلة ، عن أبي رزين ، عن ابن عباس أنه قرأها : ( وإنا لجميع حاذرون ) قال : مؤدون مقوون .

التالي السابق


الخدمات العلمية