الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا

الحديث عن جنود الله في معرض ذكر نصر الله يقتضي لا محالة فريقا مهزوما بتلك الجنود وهم العدو ، فإذا كان النصر الذي قدره الله معلولا بما بشر به المؤمنين فلا جرم اقتضى أنه معلول بما يسوء العدو وحزبه ، فذكر الله من علة ذلك النصر أنه يعذب بسببه المنافقين حزب العدو ، والمشركين صميم العدو ، فكان قوله ويعذب المنافقين معطوفا على ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات .

والمراد : تعذيب خاص زائد على تعذيبهم الذي استحقوه بسبب الكفر والنفاق وقد أومأ إلى ذلك قوله بعده عليهم دائرة السوء .

[ ص: 153 ] والابتداء بذكر المنافقين في التعذيب قبل المشركين لتنبيه المسلمين بأن كفر المنافقين خفي فربما غفل المسلمون عن هذا الفريق أو نسوه .

كان المنافقون لم يخرج منهم أحد إلى فتح مكة ولا إلى عمرة القضية لأنهم لا يحبون أن يراهم المشركون متلبسين بأعمال المسلمين مظاهرين لهم ولأنهم كانوا يحسبون أن المشركين يدافعون المسلمين عن مكة وأنه يكون النصر للمشركين .

والتعذيب : إيصال العذاب إليهم وذلك صادق بعذاب الدنيا بالسيف كما قال - تعالى - يعذبهم الله بأيديكم وقال يا أيها النبيء جاهد الكفار والمنافقين ، وبالوجل ، وحذر الافتضاح ، وبالكمد من رؤية المؤمنين منصورين سالمين قال تعالى قل موتوا بغيظكم وقال إن تصبك حسنة تسوءهم وصادق بعذاب الآخرة وهو ما خص بالذكر في آخر الآية بقوله وأعد لهم جهنم .

وعطف المنافقات نظير عطف المؤمنات المتقدم لأن نساء المنافقين يشاركونهم في أسرارهم ويحضون ما يبيتونه من الكيد ويهيئون لهم إيواء المشركين إذا زاروهم .

وقوله " الظانين " صفة للمذكورين من المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات فإن حق الصفة الواردة بعد متعدد أن تعود إلى جميعه ما لم يكن مانع لفظي أو معنوي .

والسوء بفتح السين في قوله " ظن السوء " في قراءة جميع العشرة ، وأما في قولهم عليهم دائرة السوء فهو في قراءة الجمهور بالفتح أيضا . وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحده بضم السين . والمفتوح والمضموم مترادفان في أصل اللغة ومعناهما المكروه ضد السرور ، فهما لغتان مثل : الكره والكره ، والضعف والضعف ، والضر والضر ، والبأس والبؤس . هذا عن الكسائي وتبعه الزمخشري وبينه الجوهري بأن المفتوح مصدر والمضموم اسم مصدر ، إلا أن الاستعمال غلب المفتوح في أن يقع وصفا لمذموم مضافا إليه موصوفه كما وقع في هذه الآية وفي قوله ويتربصون بكم الدوائر عليهم دائرة السوء في سورة " براءة " ، وغلب المضموم في معنى الشيء الذي هو بذاته شر .

[ ص: 154 ] فإضافة الظن إلى السوء من إضافة الموصوف إلى الصفة .

والمراد : ظنهم بالله أنهم لم يعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالفتح ولا أمره بالخروج إلى العمرة ولا يقدر للرسول - صلى الله عليه وسلم - النصر لقلة أتباعه وعزة أعدائه ، فهذا ظن سوء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وهذا المناسب لقراءته بالفتح .

وأما دائرة السوء في قراءة الجمهور فهي الدائرة التي تسوء أولئك الظانين بقرينة قوله عليهم ، ولا التفات إلى كونها محمودة عند المؤمنين إذ ليس المقام لبيان ذلك والإضافة مثل إضافة ظن السوء ، وأما في قراءة ابن كثير وأبي عمرو فإضافة ( دائرة ) المضموم من إضافة الأسماء ، أي الدائرة المختصة بالسوء والملازمة له لا من إضافة الموصوف .

وليس في قراءتهما خصوصية زائدة على قراءة الجمهور ولكنها جمعت بين الاستعمالين ففتح السوء الأول متعين وضم الثاني جائز وليس براجح والاختلاف اختلاف في الرواية .

وجملة عليهم دائرة السوء دعاء أو وعيد ، ولذلك جاءت بالاسمية لصلوحيتها لذلك بخلاف جملة وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم فإنها إخبار عما جنوه من سوء فعلهم فالتعبير بالماضي منه أظهر .

التالي السابق


الخدمات العلمية