الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 103 ] ذكر عدو الله نمرود وهلاكه

ونرجع الآن إلى خبر عدو الله نمرود ، وما آل إليه أمره في دنياه ، وتمرده على الله تعالى ، وإملاء الله له ، وكان أول جبار في الأرض ، وكان إحراقه إبراهيم ما قدمنا ذكره ، فأخرج إبراهيم - عليه السلام - من مدينته وحلف أنه يطلب إله إبراهيم ، فأخذ أربعة أفرخ نسور فرباهن باللحم ، والخمر حتى كبرن ، وغلظن ، فقرنهن بتابوت وقعد في ذلك التابوت فأخذ معه رجلا ومعه لحم لهن ، فطرن به حتى إذا ذهبن أشرف ينظر إلى الأرض فرأى الجبال تدب كالنمل ، ثم رفع لهن اللحم ونظر إلى الأرض فرآها يحيط بها بحر كأنها فلك في ماء ، ثم رفع طويلا فوقع في ظلمة فلم ير ما فوقه وما تحته ، ففزع وألقى اللحم ، فاتبعته النسور منقضات ، فلما نظرت الجبال إليهن وقد أقبلن منقضات وسمعن حفيفهن فزعت الجبال وكادت تزول ولم يفعلن ، وذلك قول الله تعالى : وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال . وكانت طيرورتهن من بيت المقدس ، ووقوعهن في جبل الدخان .

فلما رأى أنه لا يطيق شيئا أخذ في بنيان الصرح فبناه حتى علا وارتقى فوقه ينظر إلى إله إبراهيم بزعمه وأحدث ، ولم يكن يحدث ، وأخذ الله بنيانهم من القواعد من أساس الصرح فسقط وتبلبلت الألسن يومئذ من الفزع ، فتكلموا بثلاثة وسبعين لسانا ، وكان لسان الناس قبل ذلك سريانيا .

هكذا روي أنه لم يحدث ، وهذا ليس بشيء ، فإن الطبع البشري لم يخل منه إنسان حتى الأنبياء - صلوات الله عليهم - وهم أكثر اتصالا بالعالم العلوي ، وأشرف أنفسا ، ومع هذا فيأكلون ويشربون ويبولون ويتغوطون ، فلو نجا منه أحد لكان الأنبياء أولى [ ص: 104 ] لشرفهم وقربهم من الله تعالى : وإن كان لكثرة ملكه فالصحيح أنه لم يملك مستقلا ، ولو ملك مستقلا لكان الإسكندر أكثر ملكا منه ومع هذا فلم يقل فيه شيء من هذا .

قال زيد بن أسلم : إن الله تعالى بعث إلى نمرود بعد إبراهيم ملكا يدعوه إلى الله أربع مرات ، فأبى ، وقال : أرب غيري ؟ فقال له الملك : اجمع جموعك إلى ثلاثة أيام ، فجمع جموعه ، ففتح الله عليه بابا من البعوض ، فطلعت الشمس فلم يروها من كثرتها فبعثها الله عليهم فأكلتهم ولم يبق منهم إلا العظام ، والملك كما هو لم يصبه شيء ، فأرسل الله عليه بعوضة فدخلت في منخره فمكث يضرب رأسه بالمطارق فأرحم الناس به من يجمع يديه ويضرب بهما رأسه ، وكان ملكه ذلك أربعمائة سنة ، وأماته الله تعالى ، وهو الذي بنى الصرح .

وقال جماعة : إن نمرود بن كنعان ملك مشرق الأرض ومغربها ، وهذا قول يدفعه أهل العلم بالسير ، وأخبار الملوك ، وذلك أنهم لا ينكرون أن مولد إبراهيم كان أيام الضحاك الذي ذكرنا بعض أخباره فيما مضى ، وأنه كان ملك شرق الأرض وغربها .

وقول القائل إن الضحاك الذي ملك الأرض هو نمرود ليس بصحيح ، لأن أهل العلم المتقدمين يذكرون أن نسب نمرود في النبط معروف ، وأن نسب الضحاك في الفرس مشهور ، وإنما الضحاك استعمل نمرود على السواد وما اتصل به يمنة ويسرة وجعله وولده عمالا على ذلك ، وكان هو يتنقل في البلاد ، وكان وطنه ووطن أجداده دنباوند من جبال طبرستان ، وهناك رمى به أفريدون حين ظفر به ، وكذلك بختنصر .

ذكر بعضهم أنه ملك الأرض جميعها وليس كذلك ، وإنما كان إصبهبذ ما بين الأهواز إلى أرض الروم من غربي دجلة من قبل لهراسب ، لأن لهراسب كان مشتغلا بقتال [ ص: 105 ] الترك مقيما بإزائهم ببلخ ، وهو بناها لما تطاول مقامه هناك لحرب الترك ، ولم يملك أحد من النبط شبرا من الأرض مستقلا برأسه فكيف الأرض جميعها ؟ ! وإنما تطاولت مدة نمرود بالسواد أربعمائة سنة ثم دخل من نسله بعد هلاكه جيل يقال له نبط بن قعود ملك بعده مائة سنة ، ثم كداوص بن نبط ثمانين سنة ، ثم بالش بن كداوص مائة وعشرين سنة ، ثم نمرود بن بالش سنة وشهرا ، فذلك سبعمائة سنة وسنة وشهد أيام الضحاك ، وظن الناس في نمرود ما ذكرناه ، فلما ملك أفريدون وقهر الازدهاق قتل نمرود بن بالش وشرد النبط وقتل فيهم مقتلة عظيمة .

التالي السابق


الخدمات العلمية