الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار تفريع على ما سبق في هذه السورة من تكذيب المشركين رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - بجعلهم القرآن مفترى واستهزائهم به وبما جاء به من البعث ابتداء من قوله وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين ، وما اتصل به من ضرب المثل لهم بعاد . فأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على ما لقيه منهم من أذى ، وضرب له المثل بالرسل أولي العزم .

[ ص: 67 ] ويجوز أن تكون الفاء فصيحة . والتقدير : فإذا علمت ما كان من الأمم السابقة وعلمت كيف انتقمنا منهم وانتصرنا برسلنا فاصبر كما صبروا .

وأولو العزم : أصحاب العزم ، أي المتصفون به .

والعزم : نية محققة على عمل أو قول دون تردد . قال تعالى فإذا عزمت فتوكل على الله وقال ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله . وقال سعد بن ناشب من شعراء الحماسة يعني نفسه :

إذا هم ألقى بين عينيه عزمـه ونكب عن ذكر العواقب جانبا

والعزم المحمود في الدين : العزم على ما فيه تزكية النفس وصلاح الأمة ، وقوامه الصبر على المكروه وباعثه التقوى ، وقوته شدة المراقبة بأن لا يتهاون المؤمن عن محاسبته نفسه قال - تعالى - وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور وقال ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما . وهذا قبل هبوط آدم إلى عالم التكليف ، وعلى هذا تكون ( من ) في قوله من الرسل تبعيضية . وعن ابن عباس أنه قال : كل الرسل أولو عزم ، وعليه تكون ( من ) بيانية .

وهذه الآية اقتضت أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - من أولي العزم لأن تشبيه الصبر الذي أمر به بصبر أولي العزم من الرسل يقتضي أنه مثلهم لأنه ممتثل لأمر ربه ، فصبره مثيل لصبرهم ، ومن صبر صبرهم كان منهم لا محالة .

وأعقب أمره بالصبر بنهيه عن الاستعجال للمشركين ، أي الاستعجال لهم بالعذاب ، أي لا تطلب منا تعجيله لهم وذلك لأن الاستعجال ينافي العزم ولأن في تأخير العذاب تطويلا لمدة صبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بكسب عزمه قوة .

ومفعول تستعجل محذوف دل عليه المقام ، تقديره : العذاب أو الهلاك .

واللام في لهم لام تعدية فعل الاستعجال إلى المفعول لأجله ، أي لا تستعجل لأجلهم ، والكلام على حذف مضاف إذ التقدير : لا تستعجل لهلاكهم .

وجملة كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار تعليل للنهي [ ص: 68 ] عن الاستعجال لهم بالعذاب بأن العذاب واقع بهم فلا يؤثر في وقوعه تطويل أجله ولا تعجيله ، قال مرة بن عداء الفقعسي ، ولعله أخذ قوله من هذه الآية :


    كأنك لم تسبق من الدهـر لـيلة
إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب



وهم عند حلوله منذ طول المدة يشبه حالهم حال عدم المهلة إلا ساعة قليلة .

و من نهار وصف الساعة ، وتخصيصها بهذا الوصف لأن ساعة النهار تبدو للناس قصيرة لما للناس في النهار من الشواغل بخلاف ساعة الليل تطول إذ لا يجد الساهر شيئا يشغله . فالتنكير للتقليل كما في حديث الجمعة قوله - صلى الله عليه وسلم - وفيه ساعة يستجاب فيها الدعاء ، وأشار بيده يقللها ، والساعة جزء من الزمن .

التالي السابق


الخدمات العلمية