الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                        باب إذا جامع في رمضان ويذكر عن أبي هريرة رفعه من أفطر يوما من رمضان من غير عذر ولا مرض لم يقضه صيام الدهر وإن صامه وبه قال ابن مسعود وقال سعيد بن المسيب والشعبي وابن جبير وإبراهيم وقتادة وحماد يقضي يوما مكانه

                                                                                                                                                                                                        1833 حدثنا عبد الله بن منير سمع يزيد بن هارون حدثنا يحيى هو ابن سعيد أن عبد الرحمن بن القاسم أخبره عن محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام بن خويلد عن عباد بن عبد الله بن الزبير أخبره أنه سمع عائشة رضي الله عنها تقول إن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنه احترق قال ما لك قال أصبت أهلي في رمضان فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بمكتل يدعى العرق فقال أين المحترق قال أنا قال تصدق بهذا

                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا توضأ فليستنشق بمنخره الماء ) هذا الحديث بهذا اللفظ من الأصول التي لم يوصلها البخاري ، وقد أخرجه مسلم من طريق همام عن أبي هريرة ، ورويناه في مصنف عبد الرزاق وفي نسخة همام من طريق الطبراني عن إسحاق عنه عن معمر عن همام ولفظه : إذا توضأ أحدكم فليستنشق بمنخره الماء ثم ليستنثر وقول المصنف : " ولم يميز الصائم من غيره " . قاله تفقها ، وهو كذلك في أصل الاستنشاق ، لكن ورد تمييز الصائم من غيره في المبالغة في ذلك كما رواه أصحاب السنن ، وصححه ابن خزيمة وغيره من طريق عاصم بن لقيط بن صبرة عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له : بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما " ; وكأن المصنف أشار بإيراد أثر الحسن عقبه إلى هذا التفصيل .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال الحسن لا بأس بالسعوط للصائم إن لم يصل الماء إلى حلقه ) وصله ابن أبي شيبة نحوه ، وقال الكوفيون والأوزاعي وإسحاق : يجب القضاء على من استعط . وقال مالك والشافعي : لا يجب إلا إن وصل الماء إلى حلقه . وقوله : " ويكتحل " هو من قول الحسن أيضا ، وقد تقدم ذكره قبل بابين .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال عطاء . . . إلخ ) وصله سعيد بن منصور عن ابن المبارك عن ابن جريج " قلت لعطاء : الصائم يمضمض ثم يزدرد ريقه وهو صائم؟ قال : لا يضره ، وماذا بقي في فيه " وكذا أخرجه عبد الرزاق عن ابن جريج ، ووقع في أصل البخاري " وما بقي في فيه؟ " قال ابن بطال : ظاهره إباحة الازدراد لما بقي في الفم من ماء المضمضمة ، وليس كذلك ؛ لأن عبد الرزاق رواه بلفظ : " وماذا بقي في فيه " وكأن " ذا " سقطت من رواية البخاري . انتهى . و " ما " على ظاهر ما أورده البخاري موصولة ، وعلى ما وقع من [ ص: 190 ] رواية ابن جريج استفهامية ، وكأنه قال : وأي شيء يبقى في فيه بعد أن يمج الماء إلا أثر الماء ، فإذا بلع ريقه لا يضره . وقوله : في الأصل " لا يضره " وقع في رواية المستملي : " لا يضيره " بزيادة تحتانية ، والمعنى واحد .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ولا يمضغ العلك . . . إلخ ) في رواية المستملي " ويمضغ العلك " والأول أولى فكذلك أخرجه عبد الرازق عن ابن جريج " قلت لعطاء : يمضغ الصائم العلك؟ قال : لا .

                                                                                                                                                                                                        قلت : إنه يمج ريق العلك ولا يزدرده ولا يمصه ، قال [1] وقلت له : أيتسوك الصائم؟ قال : نعم . قلت له : أيزدرد ريقه؟ قال : لا . فقلت : ففعل ، أيضره؟ قال : لا . ولكن ينهى عن ذلك " وقد تقدم الخلاف في المضمضة في " باب من أكل ناسيا " قال ابن المنذر : أجمعوا على أنه لا شيء على الصائم فيما يبتلعه مما يجري مع الريق مما بين أسنانه مما لا يقدر على إخراجه ، وكان أبو حنيفة يقول : إذا كان بين أسنانه لحم . فأكله متعمدا فلا قضاء عليه . وخالفه الجمهور ؛ لأنه معدود من الأكل . ورخص في مضغ العلك أكثر العلماء إن كان لا يتحلب منه شيء ، فإن تحلب منه شيء فازدرده فالجمهور على أنه يفطر . انتهى . والعلك بكسر المهملة وسكون اللام بعدها كاف : كل ما يمضغ ويبقى في الفم كالمصطكى واللبان ، فإن كان يتحلب منه شيء في الفم فيدخل الجوف فهو مفطر ، وإلا فهو مجفف ومعطش فيكره من هذه الحيثية .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( باب : إذا جامع في رمضان ) أي : عامدا عالما وجبت عليه الكفارة .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( ويذكر عن أبي هريرة رفعه : من أفطر يوما من رمضان من غير عذر ولا مرض لم يقضه صيام الدهر وإن صامه ) وصله أصحاب السنن الأربعة وصححه ابن خزيمة من طريق سفيان الثوري وشعبة [ ص: 191 ] كلاهما عن حبيب بن أبي ثابت عن عمارة بن عمير عن أبي المطوس عن أبيه عن أبي هريرة نحوه ، وفي رواية شعبة " في غير رخصة رخصها الله تعالى له لم يقض عنه ، وإن صام الدهر كله " قال الترمذي : سألت محمدا - يعني : البخاري - عن هذا الحديث فقال أبو المطوس اسمه يزيد بن المطوس لا أعرف له غير هذا الحديث ، وقال البخاري في " التاريخ " أيضا : تفرد أبو المطوس بهذا الحديث ، ولا أدري سمع أبوه من أبي هريرة أم لا .

                                                                                                                                                                                                        قلت : واختلف فيه على حبيب بن أبي ثابت اختلافا كثيرا فحصلت فيه ثلاث علل : الاضطراب والجهل بحال أبي المطوس والشك في سماع أبيه من أبي هريرة ، وهذه الثالثة تختص بطريقة البخاري في اشتراط اللقاء ، وذكر ابن حزم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة مثله موقوفا . قال ابن بطال : أشار بهذا الحديث إلى إيجاب الكفارة على من أفطر بأكل أو شرب قياسا على الجماع ، والجامع بينهما انتهاك حرمة الشهر بما يفسد الصوم عمدا . وقرر ذلك الزين بن المنير بأنه ترجم بالجماع ؛ لأنه الذي ورد فيه الحديث المسند ، وإنما ذكر آثار الإفطار ليفهم أن الإفطار بالأكل والجماع واحد . انتهى .

                                                                                                                                                                                                        والذي يظهر لي أن البخاري أشار بالآثار التي ذكرها إلى أن إيجاب القضاء مختلف فيه بين السلف ، وأن الفطر بالجماع لا بد فيه من الكفارة ، وأشار بحديث أبي هريرة إلى أنه لا يصح لكونه لم يجزم به عنه ، وعلى تقدير صحته فظاهره يقوي قول من ذهب إلى عدم القضاء في الفطر بالأكل ، بل يبقى ذلك في ذمته زيادة في عقوبته ؛ لأن مشروعية القضاء تقتضي رفع الإثم ، لكن لا يلزم من عدم القضاء عدم الكفارة فيما ورد فيه الأمر بها وهو الجماع ، والفرق بين الانتهاك بالجماع والأكل ظاهر فلا يصح القياس المذكور .

                                                                                                                                                                                                        قال ابن المنير في الحاشية ما محصله : إن معنى قوله في الحديث : " لم يقض عنه صيام الدهر " أي : لا سبيل إلى استدراك كمال فضيلة الأداء بالقضاء ، أي : في وصفه الخاص ، وإن كان يقضي عنه في وصفه العام فلا يلزم من ذلك إهدار القضاء بالكلية . انتهى . ولا يخفى تكلفه ، وسياق أثر ابن مسعود الآتي يرد هذا التأويل ، وقد سوى بينهما البخاري .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وبه قال ابن مسعود ) أي : بما دل عليه حديث أبي هريرة ، وأثر ابن مسعود وصله البيهقي ورويناه عاليا في " جزء هلال الحفار " من طريق منصور عن واصل عن المغيرة بن عبد الله اليشكري قال : " حدثت أن عبد الله بن مسعود قال : من أفطر يوما من رمضان من غير علة لم يجزه صيام الدهر حتى يلقى الله ، فإن شاء غفر له ، وإن شاء عذبه " وصله عبد الرزاق وابن أبي شيبة من وجه آخر عن واصل عن المغيرة عن فلان بن الحارث عن ابن مسعود ، ووصله الطبراني والبيهقي أيضا من وجه آخر عن عرفجة قال : قال عبد الله بن مسعود : " من أفطر يوما في رمضان متعمدا من غير علة ثم قضى طول الدهر لم يقبل منه " وبهذا الإسناد عن علي مثله ، وذكر ابن حزم من طريق ابن المبارك بإسناد له فيه انقطاع أن أبا بكر الصديق قال لعمر بن الخطاب فيما أوصاه به : " من صام شهر رمضان في غيره لم يقبل منه ولو صام الدهر أجمع " .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( وقال سعيد بن المسيب والشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وقتادة وحماد : يقضي يوما مكانه ) أما سعيد بن المسيب فوصله مسدد وغيره عنه في قصة المجامع ، قال : " يقضي يوما مكانه ويستغفر الله " ولم أر عنه التصريح بذلك في الفطر بالأكل ، بل روى ابن أبي شيبة من طريق عاصم قال : " كتب أبو قلابة إلى سعيد بن المسيب يسأله عن رجل أفطر يوما من رمضان متعمدا ، قال : يصوم شهرا . قلت : [ ص: 192 ] فيومين؟ قال : صيام شهر . قال : فعددت أياما ، قال : صيام شهر " قال ابن عبد البر : كأنه ذهب إلى وجوب التتابع في رمضان ، فإذا تخلله فطر يوم عمدا بطل التتابع ووجب استئناف صيام شهر كمن لزمه صوم شهر متتابع بنذر أو غيره . وقال غيره : يحتمل أنه أراد عن كل يوم شهر ، فقوله : " فيومين؟ قال : صيام شهر " أي : عن كل يوم ، والأول أظهر .

                                                                                                                                                                                                        وروى البزار والدارقطني مقتضى هذا الاحتمال مرفوعا عن أنس وإسناده ضعيف . وأما الشعبي فقال سعيد بن منصور : " حدثنا هشيم حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي في رجل أفطر يوما في رمضان عامدا؟ قال : يصوم يوما مكانه ، ويستغفر الله عز وجل " وأما سعيد بن جبير فوصله ابن أبي شيبة من طريق يعلى بن حكيم عنه ، فذكر مثله . وأما إبراهيم النخعي فقال سعيد بن منصور : حدثنا هشيم ، وقال ابن أبي شيبة : حدثنا شريك كلاهما عن مغيرة عن إبراهيم فذكر مثله . وأما قتادة فذكره عبد الرزاق عن معمر عن الحسن وقتادة في قصة المجامع في رمضان . وأما حماد وهو ابن أبي سليمان فذكره عبد الرزاق عن أبي حنيفة عنه .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( حدثنا يحيى ) هو ابن سعد الأنصاري وفي إسناده هذا أربعة من التابعين في نسق كلهم من أهل المدينة : يحيى وعبد الرحمن تابعيان صغيران من طبقة واحدة ، وفوقهما قليلا محمد بن جعفر ، وأما ابن عمه عباد فمن أواسط التابعين .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إن رجلا ) قيل : هو سلمة بن صخر البياضي ولا يصح ذلك كما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( إنه احترق ) سيأتي في حديث أبي هريرة أنه عبر بقوله : " هلكت " ورواية الاحتراق تفسر رواية الهلاك ، وكأنه لما اعتقد أن مرتكب الإثم يعذب بالنار أطلق على نفسه أنه احترق لذلك ، وقد أثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الوصف فقال : " أين المحترق " إشارة إلى أنه لو أصر على ذلك لاستحق ذلك ، وفيه دلالة على أنه كان عامدا كما سيأتي .

                                                                                                                                                                                                        قوله : ( تصدق بهذا ) هكذا وقع مختصرا ، وأورده مسلم وأبو داود من طريق عمرو بن الحارث عن عبد الرحمن بن القاسم وفيه : " قال : أصبت أهلي . قال : تصدق ، قال : والله ما لي شيء ، قال : اجلس . فجلس ، فأقبل رجل يسوق حمارا عليه طعام ، فقال : أين المحترق آنفا؟ فقام الرجل ، فقال : تصدق بهذا . فقال : أعلى غيرنا؟ فوالله إنا لجياع . قال : كلوه " وقد استدل به لمالك حيث جزم في كفارة الجماع في رمضان بالإطعام دون غيره من الصيام والعتق ، ولا حجة فيه ؛ لأن القصة واحدة ، وقد حفظها أبو هريرة وقصها على وجهها وأوردتها عائشة مختصرة ، أشار إلى هذا الجواب الطحاوي ، والظاهر أن الاختصار من بعض الرواة ، فقد رواه عبد الرحمن بن الحارث عن محمد بن جعفر بن الزبير بهذا الإسناد مفسرا ولفظه : " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسا في ظل فارع - يعني : بالفاء والمهملة - فجاءه رجل من بني بياضة فقال : احترقت ، وقعت بامرأتي في رمضان . قال : أعتق رقبة ، قال : لا أجدها ، قال : أطعم ستين مسكينا ، قال : ليس عندي " فذكر الحديث ، أخرجه أبو داود ولم يسق لفظه ، وساقه ابن خزيمة في " صحيحه " والبخاري في " تاريخه " ومن طريقه البيهقي ، ولم يقع في هذه الرواية أيضا ذكر صيام شهرين ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ .

                                                                                                                                                                                                        [ ص: 193 ] ( تنبيه ) : اختلفت الرواية عن مالك في ذلك ، فالمشهور ما تقدم ، وعنه يكفر في الأكل بالتخيير وفي الجماع بالإطعام فقط ، وعنه التخيير مطلقا ، وقيل : يراعى زمان الخصب والجدب ، وقيل : يعتبر حالة المكفر ، وقيل : غير ذلك .




                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية