الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 129 ] لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير .

تعليل واستدلال على مضمون جملة : والله بما تعملون عليم وعلى ما تقدم آنفا من نحو : والله بكل شيء عليم والله بما تعملون عليم والله بما تعملون بصير والله بما تعملون خبير فإذا كان ذلك تعريضا بالوعد والوعيد ، فقد جاء هذا الكلام تصريحا واستدلالا عليه ، فجملة : وإن تبدوا ما في أنفسكم إلى آخرها هي محط التصريح ، وهي المقصود بالكلام ، وهي معطوفة على جملة : ولا تكتموا الشهادة إلى والله بما تعملون عليم وجملة لله ما في السماوات وما في الأرض هي موقع الاستدلال ، وهي اعتراض بين الجملتين المتعاطفتين ، أو علة لجملة والله بما تعملون عليم باعتبار إرادة الوعيد والوعد ، فالمعنى أنكم عبيده فلا يفوته عملكم والجزاء عليه ، وعلى هذا الوجه تكون جملة : وإن تبدوا ما في أنفسكم معطوفة على جملة لله ما في السماوات وما في الأرض عطف جملة على جملة ، والمعنى : إنكم عبيده ، وهو محاسبكم . ونظيرها في المعنى قوله تعالى : وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق ولا يخالف بينهما إلا أسلوب نظم الكلام .

ومعنى الاستدلال هنا : أن الناس قد علموا أن الله رب السماوات والأرض ، وخالق الخلق ، فإذا كان ما في السماوات والأرض لله ، مخلوقا له ، لزم أن يكون جميع ذلك معلوما له ؛ لأنه مكون ضمائرهم وخواطرهم ، وعموم علمه تعالى بأحوال مخلوقاته من تمام معنى الخالقية والربوبية ; لأنه لو خفي عليه شيء لكان العبد في حالة اختفاء حاله عن علم الله مستقلا عن خالقه ، ومالكية الله تعالى أتم أنواع الملك على الحقيقة كسائر الصفات الثابتة لله تعالى ، فهي الصفات على الحقيقة من الوجود الواجب إلى ما اقتضاه واجب الوجود من صفات الكمال ، فقوله : لله ما في السماوات وما في الأرض تمهيد لقوله : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه الآية .

[ ص: 130 ] وعطف قوله وإن تبدوا ما في أنفسكم بالواو دون الفاء للدلالة على أن الحكم الذي تضمنه مقصود بالذات ، وأن ما قبله كالتمهيد له ، ويجوز أن يكون قوله : وإن تبدوا عطفا على قوله والله بما تعملون عليم ويكون قوله : لله ما في السماوات وما في الأرض اعتراضا بينهما .

وإبداء ما في النفس : إظهاره ، وهو إعلانه بالقول ، فيما سبيله القول وبالعمل فيما يترتب عليه عمل ، وإخفاؤه بخلاف ذلك ، وعطف " أو تخفوه " للترقي في الحساب عليه ، فقد جاء على مقتضى الظاهر في عطف الأقوى على الأضعف ، في الغرض المسوق له الكلام في سياق الإثبات ، و ( ما ) في النفي يعم الخير والشر .

والمحاسبة مشتقة من الحسبان وهو العد ، فمعنى ( يحاسبكم ) في أصل اللغة : يعده عليكم . إلا أنه شاع إطلاقه على لازم المعنى ، وهو المؤاخذة والمجازاة كما حكى الله تعالى إن حسابهم إلا على ربي وشاع هذا في اصطلاح الشرع ، ويوضحه هنا قوله : ( فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ) .

وقد أجمل الله تعالى هنا الأحوال المغفورة وغير المغفورة : ليكون المؤمنون بين الخوف والرجاء ، فلا يقصروا في اتباع الخيرات النفسية والعملية ، إلا أنه أثبت غفرانا وتعذيبا بوجه الإجمال على كل مما نبديه وما نخفيه ، وللعلماء في معنى هذه الآية والجمع بينها وبين قوله - صلى الله عليه وسلم - من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة وقوله : إن الله تجاوز لأمتي عما حدثتها به أنفسها وأحسن كلام فيه ما يأتلف من كلامي المازري وعياض ، في شرحيهما لصحيح مسلم ، وهو - مع زيادة بيان - : أن ما يخطر في النفس إن كان مجرد خاطر وتردد من غير عزم فلا خلاف في عدم المؤاخذة به ، إذ لا طاقة للمكلف بصرفه عنه ، وهو مورد حديث التجاوز للأمة عما حدثت به أنفسها ، وإن كان قد جاش في النفس عزم ؛ فإما أن يكون من الخواطر التي تترتب عليها أفعال بدنية أو لا ، فإن كان من الخواطر التي لا تترتب عليها أفعال ، مثل الإيمان ، والكفر ، والحسد ، فلا خلاف في المؤاخذة به ; لأنه مما يدخل في طوق المكلف أن يصرفه عن نفسه ، وإن كان من الخواطر التي تترتب عليها آثار في الخارج ، فإن حصلت الآثار فقد خرج من أحوال الخواطر إلى الأفعال ؛ كمن يعزم على السرقة [ ص: 131 ] فيسرق ، وإن عزم عليه ورجع عن فعله اختيارا لغير مانع منعه ، فلا خلاف في عدم المؤاخذة به وهو مورد حديث من هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة وإن رجع لمانع قهره على الرجوع ففي المؤاخذة به قولان : أي إن قوله تعالى : يحاسبكم به الله محمول على معنى يجازيكم . وأنه مجمل تبينه موارد الثواب والعقاب في أدلة شرعية كثيرة ، وإن من سمى ذلك نسخا من السلف فإنما جرى على تسمية سبقت ضبط المصطلحات الأصولية ، فأطلق النسخ على معنى البيان وذلك كثير في عبارات المتقدمين . وهذه الأحاديث وما دلت عليه دلائل قواعد الشريعة ، هي البيان لـ ( من يشاء ) في قوله تعالى : ( فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ) .

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس : أن هذه الآية نسخت بالتي بعدها ، أي بقوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها كما سيأتي هنالك .

وقد تبين بهذا أن المشيئة هنا مترتبة على أحوال المبدى والمخفى ، كما هو بين .

وقرأ الجمهور : " فيغفر " " ويعذب " بالجزم ، عطفا على ( يحاسبكم ) وقرأه ابن عامر ، وعاصم ، وأبو جعفر ، ويعقوب ، بالرفع على الاستئناف بتقدير " فهو يغفر " ، وهما وجهان فصيحان ، ويجوز النصب ولم يقرأ به إلا في الشاذ .

وقوله : والله على كل شيء قدير تذييل لما دل على عموم العلم ، بما يدل على عموم القدرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية