الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                [ ص: 359 ] ولا يشترط في كون الأمر أمرا إرادته ، خلافا للمعتزلة .

                لنا : إجماع أهل اللغة على عدم اشتراط الإرادة .

                قالوا : الصيغة مستعملة فيما سبق من المعاني ; فلا تتعين للأمر إلا بالإرادة ، إذ ليست أمرا لذاتها ، ولا لتجردها عن القرائن ، إذ تبطل بالساهي والنائم .

                قلنا : استعمالها في غير الأمر مجاز ; فهي بإطلاقها له ، ولا يرد لفظ النائم والناسي ، إذ لا استعلاء فيه ، ثم الأمر والإرادة يتفاكان كمن يأمر ولا يريد ، أو يريد ولا يأمر ; فلا يتلازمان ، وإلا اجتمع النقيضان .

                التالي السابق


                قوله : " ولا يشترط في كون الأمر أمرا إرادته ، خلافا للمعتزلة " .

                اعلم أن بعض المعتزلة قال : الأمر : هو صيغة افعل بشرط إرادة إحداث الصيغة ، وإرادة الدلالة بها على الأمر ، وإرادة الآمر الامتثال من المأمور ، بفعل المأمور به ، وعندنا هو صيغة : افعل على جهة الاستعلاء ، ولا يشترط في كونه أمرا شيء من الإرادات المذكورة .

                قوله : " لنا " : أي : على أن الأمر هو الصيغة ، من غير اشتراط الإرادة ، هو " أن إجماع أهل اللغة على عدم اشتراط الإرادة للآمر " ، وذلك لأنهم رتبوا ذم المأمور أو مدحه ، وإثباته وعقوبته ، على مخالفة مجرد الصيغة أو موافقتها ولم يسألوا ، ولم يستفصلوا هل أراد الآمر الأمر أو امتثال المأمور أو [ ص: 360 ] لا ؟ ، ولو كان ذلك شرطا عندهم ، لما أهملوا السؤال عنه ، ولا رتبوا أحكام الأمر عليه ، بدون تحققه ، فلما أهملوا السؤال عنه ، دل على أنه ليس شرطا عندهم ، وإذا لم يكن شرطا عندهم ، لم يكن شرطا مطلقا ; لأنهم هم أهل اللسان ، وعنهم يؤخذ أقسام الكلام .

                فإن قيل : لعل الإرادة ظهرت لهم بقرائن الأحوال ; فاستغنوا بها عن السؤال .

                قلنا : الأصل عدم القرائن ، وإن سلم وجودها ، لكنه ليس بلازم في كل صورة من صور الأمر ; فمع كثرة وقوعه ; يستحيل عادة أن لا يتجرد عن القرائن في بعض الصور ; فيحتاجون إلى السؤال عن شرطه المذكور ; فينقل عنهم ، ويعلم اعتباره عندهم ، فلما لم يوجد شيء من ذلك ، دل على أن لا أصل لهذا الشرط .

                قوله : " قالوا : الصيغة مستعملة فيما سبق من المعاني " ، إلى آخره . هذا دليل من اشترط للأمر الإرادة .

                وتقريره : أن صيغة " افعل " لو استغنت - في كونها أمرا - عن الإرادة ; لكانت ; إما أن تكون أمرا لذاتها ، أو لتجردها عن القرائن ، وكلاهما باطل ; فالقول باستغنائها عن الإرادة باطل .

                " وإنما قلنا : إنها ليست أمرا لذاتها " ، أي : لكونها صيغة افعل ; لأنها لو كانت أمرا لذاتها ، لما صح ورودها للتهديد ونحوه ، مما ليس المراد بلفظها [ ص: 361 ] فيه الأمر ، ولكن قد صح ورودها للتهديد ، نحو : اعملوا ما شئتم [ فصلت : 40 ] ; فلا تكون أمرا لذاتها .

                وإنما قلنا : إنها ليست أمرا ، لتجردها عن القرائن ; لأن ذلك يبطل بالساهي والنائم ، فإن صيغة افعل تصدر منهما مجردة عن القرائن ، وليست أمرا .

                وإذا ثبت أنها ليست أمرا لذاتها ، ولا لتجردها عن القرائن ، وقد وردت مستعملة في المعاني السابق ذكرها ، على كثرتها ; فحملها على الأمر دون بقية تلك المعاني ، ترجيح من غير مرجح ; فوجب أن تشترط الإرادة في كونها أمرا ، لتتعين له بها .

                قوله : " قلنا : استعمالها في غير الأمر مجاز ; فهي بإطلاقها له " ، هذا جواب دليلهم ، وهو يمنع الحصر في قولهم : إما أن تكون أمرا لذاتها ، أو لتجردها عن القرائن .

                وبيانه أن ثم قسما آخر ، وهو أنها حقيقة في الأمر بوضع الواضع ، أو عرف الاستعمال ، بدليل ما سبق من مبادرة فهم الطلب الجازم منها ، وإذا كانت حقيقة فيه ; فهي بإطلاقها له . فلا يحتاج إلى التعيين بالإرادة ، وهي مجاز في غير الأمر ، لئلا يلزم الاشتراك ، وهو خلاف الأصل ، وإنما كان يحتاج إلى تعيينها للأمر بالإرادة ، لو كانت مشتركة في المعاني التي وردت فيها ، وليس كذلك .

                وأما لفظ النائم والناسي بصيغة افعل ، مع أنه ليس أمرا ; فلا يرد [ ص: 362 ] علينا ; لأن انتفاء كونه أمرا ; لم يكن لعدم الإرادة ، بل لعدم الاستعلاء فيه ، إذ الاستعلاء لا يتصور من الساهي والنائم ; لأن الاستعلاء كيفية تصدر عن تصور الآمر ، واستشعاره أنه أعلى من المأمور ، وذلك يستلزم صحة التصور والقصد ، وهما ممتنعان في النائم والساهي ، ولذلك قلنا : لا يتوجه الخطاب إليهما حال النوم والسهو .

                وقد يرد على هذا : أن من لا يشترط الاستعلاء أيضا ، يصحح الأمر منهما ; فدل على أن عدم الاستعلاء منهما ليس هو المانع ، لكن يجاب عن هذا : بأنا لا نسلم أن عدم الاستعلاء ليس هو المانع ، لكن عدم الإرادة لا يتعين مانعا ، إذ جاز أن يكون المانع غيره .

                قوله : " ثم الأمر والإرادة يتفاكان " ، إلى آخره . هذا دليل آخر على بطلان اشتراط الإرادة للآمر .

                وتقريره : أن الإرادة لو كانت شرطا للأمر ، لما انفكت عنه ، لاستحالة انفكاك المشروط عن شرطه ، لكنهما يتفاكان جميعا ، أي : ينفك كل واحد منهما عن الآخر ; فلا تكون الإرادة شرطا للأمر .

                وبيان انفكاك كل واحد منهما عن الآخر هو أنه يصح أن يأمر المتكلم [ ص: 363 ] بما لا يريد ، وأن يريد ما لا يأمر به .

                أما الأمر بما لا يراد ; فكأمر الله عز وجل الكفار بالإيمان ، مع عدم إرادته منهم ، إذ لو أراده منهم ، لكان ، وذلك لأن معنى كون إيمانهم مرادا له عز وجل : هو تعلق إرادته به ، ومعنى تعلق إرادته به هو تخصيصها بحدوثه منهم بحال دون حال ، ووقت دون وقت ، إذ شأن الإرادة التخصيص ، وشأن القدرة التأثير ، فلما لم يوجد الإيمان منهم ، دل على أنه لم يكن مرادا له عز وجل ، مع أنه أمر به بالإجماع ; فثبت أن الأمر يصح وجوده بدون الإرادة ، وكذلك : لو عوتب شخص على معاقبة عبده ; فادعى مخالفته له ، وأراد إقامة عذره عند معاتبه ; فقال لعبده : اذهب ; فافعل كذا ; فهذا أمر له بالفعل ، مع أن السيد لا يريد منه الامتثال قطعا ، لئلا يفضي إلى تكذيبه عند معاتبه ، ويتعذر عليه إقامة عذره عنده .

                وكذلك نوح عليه السلام ، لما قيل له : أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن [ هود : 36 ] ، وسائر الأنبياء ، لما أخبروا أن كفار قومهم لا يؤمنون ، كانوا بعد ذلك يدعونهم إلى الإيمان ، إقامة لرسم الدعوة ، ولا يريدونه منهم لوجهين :

                أحدهما : إفضاء إيمانهم إلى تكذيب خبر الله عز وجل .

                [ ص: 364 ] الثاني : استحالة إيمانهم ، لتعلق علم الله تعالى بعدمه ، والمحال غير مراد .

                وأما إرادة ما لا يؤمر به ; فهو كثير الوقوع ، إذ الإنسان كثيرا ما يريد شيئا ، ولا يأمر به ، خوفا ، أو حياء ، أو تدينا ، كما لو حرم السلطان عصر العنب خمرا ، فإن كثيرا من الناس يريد عصره ، ولا يأمر به عبده ، ولا ولده ، ونحوهما ممن له عليه ولاية ، خوفا أن يظهر عليه ; فيعاقب ، والصائم قد يريد الأكل والشرب ، ولا يأمر عبده بإحضاره ، ليتناول منه حياء من الله عز وجل ومحافظة على الدين .

                وإذا ثبت أن الأمر والإرادة يتفاكان ، " فلا يتلازمان " .

                أي : لا يلزم أحدهما الآخر من الطرفين ، ولا من أحدهما ، " وإلا اجتمع النقيضان " .

                أي : لو تلازما مع صحة تفاكهما ، لزم اجتماع النقيضين ، وهو تفاكهما ، وعدم تفاكهما ، أو تلازمهما وعدم تلازمهما ، وهو محال .




                الخدمات العلمية