الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 323 ] فصل في القراءة [ ص: 324 ] قال ( ويجهر بالقراءة في الفجر وفي الركعتين الأوليين من المغرب والعشاء إن كان إماما ) ويخفي في الأخريين [ ص: 325 ] هذا هو المأثور المتوارث ( وإن كان منفردا فهو مخير إن شاء جهر وأسمع نفسه ) لأنه إمام في حق نفسه ( وإن شاء خافت ) لأنه ليس خلفه من يسمعه ، والأفضل هو الجهر ليكون الأداء على هيئة الجماعة

التالي السابق


( فصل في القراءة ) خص هذا الركن بفصل دون سائر الأركان لكثرة ما يتعلق به من الأحكام .

وفي النوازل : رجل افتتح الصلاة فنام فقرأ وهو نائم يجوز عن القراءة لأن الشرع جعل النائم كالمنتبه تعظيما لأمر المصلي بالحديث وبه فارق الطلاق ، ألا يرى أن المجنون والصبي لو صليا كانت صلاتهما جائزة ولو طلقا لم يجز .

قال المصنف في التنجيس : والمختار أنه لا يجوز لأن الاختيار شرط أداء العبادة ولم يوجد انتهى .

والأوجه اختيار الفقيه ، والاختيار المشروط قد وجد في ابتداء الصلاة وهو كاف ، ألا يرى لو ركع وسجد ذاهلا عن فعله كل الذهول أنه يجزئه ، ومما يتعلق به المسألة الكثيرة الشعب مسألة زلة القارئ ولم يذكرها المصنف مع أنها مهمة جدا فلنوردها .

وخطأ القارئ إما في الإعراب أو في الحروف أو في الكلمات أو الآيات ، وفي الحروف إما بوضع حرف مكان آخر أو تقديمه أو تأخيره أو زيادته أو نقصه ، أما الإعراب فإن لم يغير المعنى لا تفسد لأن تغييره خطأ لا يستطاع الاحتراز عنه فيعذر ، وإن غير فاحشا مما اعتقاده كفر مثل البارئ المصور بفتح الواو و { إنما يخشى الله من عباده العلماء } برفع الجلالة ونصب العلماء فسدت في قول المتقدمين .

واختلف المتأخرون فقال ابن مقاتل ومحمد بن سلام وأبو بكر بن سعيد البلخي والهندواني وابن الفضل والحلواني لا تفسد ، وما قال المتقدمون أحوط لأنه لو تعمد يكون كفرا ، وما يكون كفرا لا يكون من القرآن فيكون متكلما بكلام الناس الكفار غلطا وهو مفسد كما لو تكلم بكلام الناس ساهيا مما ليس بكفر فكيف وهو كفر ، وقول المتأخرين أوسع لأن الناس لا يميزون بين وجوه الإعراب ، وهو على قول أبي يوسف ظاهر لأنه لا يعتبر الإعراب عرف ذلك في مسائل ، ويتصل بهذا تخفيف المشدد ، عامة المشايخ على [ ص: 323 ] أن ترك المد والتشديد كالخطإ في الإعراب ، فلذا قال كثير بالفساد في تخفيف { رب العالمين } و { إياك نعبد } لأن معنى إيا مخففا الشمس ، والأصح لا تفسد وهو لغة قليلة في إيا المشددة نقله بعض متأخري النحاة ، وعلى قول المتأخرين لا يحتاج إلى هذا ، وبناء على هذا أفسدوها بمد همزة أكبر على ما تقدم .

وأما الحروف فإذا وضع حرفا مكان غيره فإما خطأ وإما عجزا ، فالأول إن لم يغير المعنى ومثله في القرآن نحو : إن المسلمون ، لا تفسد ، وإن لم يغير وليس مثله في القرآن نحو : قيامين بالقسط والتيابين ، والحي القيام عندهما لا تفسد ، وعند أبي يوسف تفسد ، وإن غير فسدت عندهما وعند أبي يوسف إن لم تكن مثله في القرآن ، فلو قرأ أصحاب الشعير بشين معجمة فسدت اتفاقا ، فالعبرة في عدم الفساد عدم تغير المعنى .

وعند أبي يوسف وجود المثل في القرآن فلا يعتبر على هذا ما ذكر أبو منصور العراقي من عسر الفصل بين الحرفين وعدمه في عدم الفساد وثبوته ولا قرب المخارج وعدمه كما قال ابن مقاتل .

وحاصل هذا إن كان الفصل بلا مشقة كالطاء مع الصاد فقرأ الطالحات مكان الصالحات تفسد ، وإن كان بمشقة كالظاء مع الضاد والصاد مع السين والطاء مع التاء قيل تفسد ، وأكثرهم لا تفسد ، هذا على رأي هؤلاء المشايخ ثم لم تنضبط فروعهم فأورد في الخلاصة ما ظاهره التنافي للمتأمل ، فالأولى قول المتقدمين ، والثاني وهو الإقامة عجزا كالحمد لله الرحمن الرحيم بالهاء فيها ، أعوذ بالمهملة ، الصمد بالسين إن كان يجهد الليل والنهار في تصحيحه ولا يقدر فصلاته جائزة ، ولو ترك جهده ففاسدة ولا يسعه أن يترك في باقي عمره ، وأما الألثغ الذي يقرأ بسم الله بالمثلثة أو مكان اللام الياء ونحوه لا يطاوعه لسانه لغيره فقيل إن بدل الكلام فسدت ، أو قرأ خارج الصلاة لا يؤجر ، فإن أمكنه أن يتخذ آيات ليس فيها تلك الحروف يفعل وإلا يسكت .

وعلى قياس الأول إن بذل جهده لا تفسد ، وبه أخذ كذا في الخلاصة ، وإن لم يبذل إن أمكنه آيات ليس فيها تلك الحروف يتخذها إلا الفاتحة ، ولا ينبغي لغيره الاقتداء به ، وكذا الفأفاء الذي لا يقدر على إخراج الكلمة إلا بتكرير الفاء ، والتمتام الذي لا يقدر على إخراجها إلا بعد أن يديرها في صدره كثيرا ، وكذا من لا يقدر على إخراج حرف من الحروف ، ثم الألثغ إذا وجد آيات ليس فيها تلك الحروف فقرأ ما هي فيه فيها فالأكثر على أنه لا تجوز صلاته ، فإن لم يجد جازت ، وهل يجوز بلا قراءة ؟ اختلف المشايخ فيه ، وينبغي أن يكون الخلاف فيما إذا قرأ بما فيها مع وجود ما ليس فيها فيما إذا لم يبدل ، أما إذا بدل فينبغي عدمه في الفساد لأنه تبديل للمعنى من غير ضرورة ، وكذا في الجواز بغير قراءة ينبغي أن يكون محله عدم الوجود مع العجز أما معه فينبغي عدمه في الفساد لأنه تبديل للمعنى من غير ضرورة .

وأما التقديم والتأخير فإن غير نحو قوسرة في قسورة فسدت ، وإن لم يغير لا تفسد عند محمد خلافا لأبي يوسف .

وأما الزيادة ومنه فك المدغم وإن لم يغير نحو : وانها عن المنكر بالألف ، وراددوه إليك ، لا تفسد عند عامة المشايخ ، وعن أبي يوسف روايتان ، وإن غير نحو زرابيب مكان زرابي ، والقرآن الحكيم وإنك لمن المرسلين ، وإن سعيكم لشتى بالواو تفسد ، وكذا النقصان إن لم يغير لا تفسد نحو جاءهم مكان جاءتهم وإن غير فسد نحو ، والنهار إذا تجلى ما خلق الذكر والأنثى [ ص: 324 ] بلا واو ، وأما لو كان حذف الحرف من كلمة ففي فتاوى قاضي خان إن كان حذف حرفا أصليا من كلمة وتغير المعنى تفسد في قول أبي حنيفة ومحمد نحو رزقناهم بلا راء أو زاي أو خلقنا بغير خاء أو جعلنا بلا جيم ، ثم ذكر من المثل نحو ما خلق الذكر والأنثى وقال : قالوا على قياس قول أبي يوسف لا تفسد لأن المقروء في القرآن قال ، ولو كانت الكلمة ثلاثية فحذف حرفا من أولها أو أوسطها نحو ربيا أو عريا في عربيا تفسد ، إما لتغير المعنى أو لأنه يصير لغوا ، وكذا حذف باء ضرب الله فإن كان ترخيما لا تفسد وشرطه النداء والعلمية وأن يكون رباعيا أو خماسيا نحو وقالوا يا مال في مالك .

وأما الكلمة مكان الكلمة فإن تقاربا معنى ومثله في القرآن كالحكيم مكان العليم لم تفسد اتفاقا ، وإن لم يوجد المثل كالفاجر مكان الأثيم وأياه مكان أواه فكذلك عندهما ، وعن أبي يوسف روايتان ، فلو لم يتقاربا ولا مثل له فسد اتفاقا إذا لم يكن ذكرا وإن كان في القرآن وهو مما اعتقاده كفر كغافلين في { إنا كنا فاعلين } فعامة المشايخ على أنه تفسد اتفاقا .

وقال بعضهم : على قياس أبي يوسف لا تفسد ، وبه كان يفتي ابن مقاتل ، والصحيح من مذهب أبي يوسف أنها تفسد .

ولو قرأ " الغبار " مكان " الغراب " ، " فاخشوهم ولا تخشون " ، ألست بربكم قالوا نعم ; تفسد ، ما تخلقون مكان تمنون الأظهر الفساد ، وذق إنك أنت العزيز الحكيم مكان الكريم المختار الفساد ، وقيل لا لأن المعنى في زعمك .

ولو قرأ أحل لكم صيد البر مع أنه قرأ ما بعدها وحرم عليكم صيد البر لا تفسد عند طلوع الشمس ، وعند الغروب مكان قبل طلوع الشمس وقبل الغروب تفسد ، وكل صغير وكبير في سقر ، والنازعات نزعا ، إنا مرسلو الجمل والكلب والبغال لا تفسد ، وشركاء مكان " شفعاء " تفسد .

وفي مجموع النوازل ومن وضع كلمة مكان أخرى كأن ينسب بالبنوة إلى غير من نسب إليه ، فإن كان في القرآن نحو موسى بن لقمان لا تفسد عند محمد ورواية أبي يوسف وعليه العامة ، وإن لم يكن كمريم ابنة غيلان تفسد اتفاقا ، وكذا لو لم تجز نسبته فنسبه تفسد كعيسى بن لقمان لأن نسبته كفر إذا تعمد .

وفي فتاوى قاضي خان : إذ أراد أن يقرأ كلمة فجرى على لسانه شطر كلمة فرجع وقرأ الأولى أو ركع ولم يتمها إن كان شطر كلمة لو أتمها لا تفسد صلاته لا تفسد وإن كان لو أتمها تفسد تفسد ، وللشطر حكم الكل وهو الصحيح انتهى .

وأما التقديم والتأخير ، فإن لم يغير لم يفسد نحو فأنبتنا فيها عنبا وحبا ، وإن غير فسد نحو اليسر مكان العسر وعكسه ، ويمكن إدراجه في الكلمة مكان الكلمة .

وفي الخلاصة : لو قرأ لتفرن عما كنتم تسألون ، لا تفسد ، وإذ الإعناق في أغلالهم لا تفسد .

وأما الزيادة فإن لم تغير وهي في القرآن نحو : وبالوالدين إحسانا وبرا إن الله كان غفورا رحيما عليما لا تفسد في قولهم ، وإن غيرت وهي موجودة نحو وعمل صالحا أو كفر فلهم أجرهم ، أو غير موجودة نحو وأما ثمود فهديناهم وعصيناهم فاستحبوا ; فسدت لأنه لو تعمده كفر ، فإذا أخطأ فيه أفسد ، فإن لم تغير وليست في القرآن نحو فيها فاكهة ونخل وتفاح ورمان لا تفسد وعند أبي يوسف تفسد .

ولو وضع الظاهر موضع المضمر عن بعض المشايخ تفسد .

واستشكل بأنه زيادة لا تغير .

وفي الخلاصة : رأيت في بعض المواضع لا تفسد .

ومن الزيادة القراءة بالألحان لأن حاصلها إشباع الحركات لمراعاة النغم على ما قدمناه من تفسير الإمام أحمد لها في باب الأذان أو زيادة الهمزات كآ فإذا فحش أفسد الصلاة كذا في الخلاصة ، وإن كان غيره فتعرف في زيادة الحرف ، ولو بنى بعض آية على أخرى إن لم يغير نحو { إن الذين [ ص: 325 ] آمنوا وعملوا الصالحات } { فله جزاء الحسنى } مكان { كانت لهم جنات الفردوس نزلا } لا تفسد ، وإن غير فإن وقف وقفا تاما بينهما فكذلك لو كان قرأ { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ووقف ثم قال { أولئك هم شر البرية } .

وإن وصل تفسد عند عامة المشايخ وهو الصحيح ، وحينئذ هذا مقيد لما ذكر في بعض المواضع من أنه إذا شهد بالجنة لمن شهد الله له بالنار أو بالقلب تفسد ، والله سبحانه وتعالى أعلم .



( قوله هذا هو المتوارث ) يعني أنا أخذنا عمن يلينا الصلاة هكذا فعلا وهم عمن يليهم كذلك ، وهكذا إلى الصحابة رضي الله عنهم وهم بالضرورة أخذوه عن صاحب الوحي فلا يحتاج إلى أن ينقل فيه نص معين ، هذا ولا يجهد نفسه في الجهر ( قوله لأنه إمام في حق نفسه ) لما كان قوله وأسمع نفسه يتضمن من البديع النوع المسمى بحسن التعليل كما قيل :

فدتك نفوس الحاسدين فإنها معذبة في حضرة ومغيب وفي تعب من يحسد الشمس ضوءها
ويجهد أن يأتي لها بضريب

فإن قوله جهر تتوجه النفس إلى طلب علته من أنه أي حاجة إلى ذلك وليس معه أحد يسمعه فقال وأسمع نفسه لإفادته ، وذلك قد يخفى صرح بالتعليل بأداته بلازم المستفاد من حسن التعليل ، ويشكل عليه ما سيذكره في تعريف الجهر حيث قال : والجهر أن يسمع غيره فإنه يقتضي أن ما ليس فيه إسماع الغير ليس بجهر ، أو أن كون هذا جهرا ليس بصحيح فإن المراد أن يسمع نفسه لا غيره بمفهوم اللقب ، وهو حجة في الروايات ، ولا مخلص إلا أن يمنع إرادة هذا المفهوم على خلاف ما في النهاية ، أو أن إرادته على قول الكرخي لا على المختار والتعريف على المختار من قول الهندواني . وصاحب الهداية أيضا اعتبر هذا المفهوم حيث قال فيما بعده : وفي لفظ الكتاب إشارة إليه [ ص: 326 ] حيث قال : إن شاء جهر وأسمع نفسه فانظر كلامه بعد فيتعين على رأيه الثاني




الخدمات العلمية