الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              ذكر أهل الصفة

              قال الشيخ : قد ذكرنا بعض أحوال فريق من نساك الصحابة وعبادهم ، وأقوال جماعة من أئمة الصحابة وأعلامهم من المشتهرين بالمعبود وذكره ، المشغوفين بالفرد ووده . الذين جعلوا للعارفين والعاملين قدوة ، وعلى المفتونين بالدنيا والمقبلين عليها حجة . ونذكر الآن مستعينين بالله شأن أهل الصفة وأخلاقهم وأحوالهم وتسمية من سمي لنا اسمه بالأسانيد المشهورة ، والشواهد المذكورة .

              وهم قوم أخلاهم الحق من الركون إلى شيء من العروض ، وعصمهم من الافتتان بها عن الفروض . وجعلهم قدوة للمتجردين من الفقراء ، كما جعل من تقدم ذكرهم أسوة للعارفين من الحكماء . لا يأوون إلى أهل ولا مال ، [ ص: 338 ] ولا يلهيهم عن ذكر الله تجارة ولا حال ، لم يحزنوا على ما فاتهم من الدنيا ، ولا يفرحون إلا بما أيدوا به من العقبى . كانت أفراحهم بمعبودهم ومليكهم وأحزانهم على فوت الاغتنام من أوقاتهم وأورادهم ، هم الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، ولم يأسوا على ما فاتهم ، ولم يفرحوا بما أتاهم . حماهم مليكهم عن التمتع بالدنيا والتبسيط فيها ; لكيلا يبغوا ولا يطغوا ، رفضوا الحزن على ما فات من ذهاب وشتات ، والفرح بصاحب نسب إلى بلى ورفات .

              حدثنا أبي ثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن ، ثنا أحمد بن سعيد ، ثنا عبد الله بن وهب ، أخبرني أبو هانئ ، قال : سمعت عمرو بن حريث وغيره يقولون : إنما نزلت هذه الآية في أصحاب الصفة : ( ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ) ذلك بأنهم قالوا : لو أن لنا ، فتمنوا الدنيا . رواه حيوة ، عن أبي هانئ .

              حدثنا سليمان بن أحمد ، ثنا أحمد بن يحيى الحلواني ، ثنا سعيد بن سليمان ، عن عبد الله بن المبارك ، عن حيوة بن شريح ، عن أبي هانئ ، قال : سمعت عمرو بن حريث ، يقول : نزلت هذه الآية في أهل الصفة : ( ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ) قال : لأنهم تمنوا الدنيا .

              قال الشيخ : زوى الله عز وجل عنهم الدنيا ، وقبضها إبقاء عليهم وصونا لهم ; لئلا يطغوا ، فصاروا في حماه محفوظين من الأثقال ، ومحروسين من الأشغال ، لا تذلهم الأموال ، ولا تتغير عليهم الأحوال .

              حدثنا أبو عمرو بن حمدان ، ثنا الحسين بن سفيان ، ثنا عبيد الله بن معاذ ، ثنا معتمر بن سليمان ، قال : قال أبي ، ثنا أبو عثمان النهدي أنه حدثه عبد الرحمن بن أبي بكر : أن أصحاب الصفة كانوا أناسا فقراء ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث ، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس ، بسادس ، أو كما قال . وأن أبا بكر جاء بثلاثة ، وانطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم بعشرة " . هذا حديث صحيح متفق عليه .

              حدثنا سليمان ، ثنا علي بن عبد العزيز ، ثنا أبو نعيم ، ثنا عمر بن ذر ، ثنا مجاهد أن أبا هريرة ، قال : مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أبا هر [ ص: 339 ] فقلت : لبيك يا رسول الله قال : الحق أهل الصفة فادعهم ، قال : وأهل الصفة أضياف الإسلام ، لا يأوون على أهل ولا مال ، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا ، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها . صحيح متفق عليه .

              حدثنا أبو عمر بن حمدان ، ثنا الحسين بن سفيان ، ثنا وهب بن بقية ، ثنا خالد بن عبد الله ، عن داود بن أبي هند ، عن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي ، عن طلحة بن عمرو ، قال : كان الرجل إذا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وكان له بالمدينة عريف نزل عليه ، وإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة ، قال : وكنت فيمن نزل الصفة فوافقت رجلا وكان يجري علينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم مد من تمر بين رجلين .

              حدثنا سليمان بن أحمد ، ثنا محمد بن النضر الأزدي ، ثنا موسى بن داود ، ثنا شريك ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن علي بن حسين ، عن أبي رافع ، قال : لما ولدت فاطمة حسينا قالت : يا رسول الله ألا أعق عن ابني؟ قال : لا ولكن احلقي رأسه وتصدقي بوزن شعره ورقا ، أو فضة ، على الأوفاض والمساكين يعني بالأوفاض : أهل الصفة .

              حدثنا محمد بن الحسن ، ثنا بشر بن موسى ، ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ ، ثنا حيوة ، أخبرني أبو هانئ أن أبا علي الجنبي حدثه أنه سمع فضالة بن عبيد يقول : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم في صلاتهم لما بهم من الخصاصة ، وهم أصحاب الصفة ، حتى يقول الأعراب : إن هؤلاء مجانين . رواه ابن وهب ، عن ابن هانئ .

              حدثنا محمد بن محمد بن إسحاق ، ثنا زكريا الساجي ، ثنا أحمد بن عبد الرحمن ، ثنا عمي عبد الله بن وهب ، عن فضيل بن غزوان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : كان من أهل الصفة سبعون رجلا ليس لواحد منهم رداء .

              حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، ثنا محمد بن عبد الله بن رستة ، ثنا أبو أيوب المقرئ ، ثنا جرير ، عن عطاء ، عن الشعبي ، عن أبي هريرة قال : كنت في الصفة ، فبعث إلينا النبي صلى [ ص: 340 ] الله عليه وسلم عجوة فكنا نقرن الثنتين من الجوع ، ويقول لأصحابه : إني قد قرنت فاقرنوا .

              حدثنا أبو محمد بن حيان ، ثنا عبد الرحمن بن محمد بن سلم ، ثنا هناد بن السري ، ثنا أبو معاوية ، عن هشام ، عن الحسن ، قال : جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الصفة فقال : " كيف أصبحتم " ، قالوا : بخير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنتم اليوم خير ، وإذا غدي على أحدكم بجفنة وريح بأخرى ، وستر أحدكم بيته كما تستر الكعبة " ، فقالوا : يا رسول الله نصيب ذلك ونحن على ديننا؟ قال : "نعم " ، قالوا : فنحن يومئذ خير نتصدق ونعتق . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا بل أنتم اليوم خير ، إنكم إذا أصبتموها تحاسدتم وتقاطعتم وتباغضتم " . كذا رواه معاوية مرسلا .

              حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا أبو يحيى الرازي ، ثنا هناد بن السري ، ثنا يونس بن بكير ، ثنا سنان بن سيسن الحنفي ، حدثني الحسن ، قال : بنيت صفة لضعفاء المسلمين ، فجعل المسلمون يوغلون إليها ما استطاعوا من خير ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيهم فيقول : السلام عليكم يا أهل الصفة ، فيقولون : وعليك السلام يا رسول الله ، فيقول : كيف أصبحتم ، فيقولون : بخير يا رسول الله ، فيقول : أنتم اليوم خير من يوم يغدى على أحدكم بجفنة ويراح عليه بأخرى ، ويغدو في حلة ويروح في أخرى ، وتسترون بيوتكم كما تستر الكعبة ، فقال : نحن يومئذ خير يعطينا الله تعالى فنشكر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بل أنتم اليوم خير " .

              قال الشيخ رحمه الله : وكان عدد قاطني الصفة يختلف على حسب اختلاف الأوقات والأحوال ، فربما تفرق عنها وانتقص طارقوها من الغرباء والقادمين فيقل عددهم ، وربما يجتمع فيها واردوها من الوراد والوفود فينضم إليهم فيكثرون ، غير أن الظاهر من أحوالهم ، والمشهور من أخبارهم غلبة الفقر عليهم ، وإيثارهم القلة واختيارهم لها . فلم يجتمع لهم ثوبان ، ولا حضرهم من الأطعمة لونان . يدل على ذلك ما : حدثناه أبو بكر بن مالك ، ثنا عبد الله بن أحمد [ ص: 341 ] بن حنبل ، حدثني وكيع ، حدثني فضيل بن غزوان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، قال : رأيت سبعين من أهل الصفة يصلون في ثوب ، فمنهم من يبلغ ركبتيه ، ومنهم من هو أسفل من ذلك ، فإذا ركع أحدهم قبض عليه مخافة أن تبدو عورته .

              حدثنا عبد الله بن جعفر بن أحمد ، ثنا إسماعيل بن عبد الله ، ثنا هشام بن عامر ، ثنا صدقة بن خالد ، ثنا زيد بن واقد ، حدثني بسر بن عبيد الله الحضرمي ، عن واثلة بن الأسقع ، قال : كنت من أصحاب الصفة ، وما منا أحد عليه ثوب تام ، وقد اتخذ العرق في جلودنا طوقا من الوسخ والغبار .

              حدثنا عبد الله بن محمد بن جعفر ، ثنا عبد الرحمن بن محمد بن سلم ، ثنا هناد بن السري ، ثنا أبو أسامة ، عن جرير بن حازم ، عن محمد بن سيرين ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمسى قسم ناسا من أهل الصفة بين ناس من أصحابه ، فكان الرجل يذهب بالرجل ، والرجل يذهب بالرجلين ، والرجل يذهب بالثلاثة حتى ذكر عشرة ، فكان سعد بن عبادة يرجع كل ليلة إلى أهله بثمانين منهم يعشيهم .

              حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي بكر ، ثنا عبد الله بن محمد بن النعمان ، ثنا أبو نعيم وحدثنا أبو بكر الطلحي ، ثنا عبيد بن غنام ، واللفظ له ، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا أبو نعيم ، عن موسى بن علي ، قال : سمعت أبي يحدث عن عقبة بن عامر ، قال : خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة ، فقال : أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحاء والعقيق فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم ولا قطيعة رحم ، فقلنا : يا رسول الله كلنا نحب ذلك ، قال : أولا يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم أو يقرأ آيتين من كتاب الله تعالى خير له من ناقتين ، وثلاث ، وأربع . خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل ؟

              قال الشيخ رحمه الله : فحديث عقبة يصرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يردهم عند العوارض الداعية إلى تمني الدنيا والإقبال عليها إلى ما هو أليق بحالهم ، وأصلح لبالهم من الاشتغال بالأذكار ، وما يعود عليهم من منافع [ ص: 342 ] البيان والأنوار ، ويعصمون به من المهالك والأخطار ، ويستروحون إليه مما يرد من الأماني على الأسرار .

              حدثنا محمد بن أحمد بن مخلد ، ثنا أبو إسماعيل الترمذي ، ثنا يحيى بن بكير ، ثنا ابن لهيعة ، عن عمارة بن غزية أن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أخبره أنه سمع أنس بن مالك يقول : أقبل أبو طلحة يوما ، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قائم يقرئ أصحاب الصفة ، على بطنه فصيل من حجر يقيم به صلبه من الجوع . كان شغلهم تفهم الكتاب وتعلمه ، ونهمتهم الترنم بالخطاب وتردده ، شاهد ذلك ما : حدثناه جعفر بن محمد بن عمرو ، ثنا أبو حصين الوادعي ، ثنا يحيى بن عبد الحميد ، ثنا حماد بن زيد ، عن المعلى بن زياد ، عن العلاء بن بشير ، عن أبي الصديق الناجي ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه ، قال : أتى علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن أناس من ضعفة المسلمين ، ورجل يقرأ علينا القرآن ويدعو لنا ، ما أظن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف أحدا منهم وإن بعضهم ليتوارى من بعض من العري ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ، فأدارها شبه الحلقة ، فاستدارت له الحلقة ، فقال : " بم كنتم تراجعون؟ " قالوا : هذا رجل يقرأ علينا القرآن ويدعو لنا . قال : " فعودوا لما كنتم فيه " ، ثم قال : " الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم " ، ثم قال : " ليبشر فقراء المؤمنين بالفوز يوم القيامة قبل الأغنياء بمقدار خمسمائة عام ، هؤلاء في الجنة ينعمون ، وهؤلاء يحاسبون " . رواه جعفر بن سليمان ، عن المعلى بن زياد بإسناده مثله . ورواه جعفر أيضا ، عن ثابت البناني ، عن سلمان مرسلا .

              حدثنا أبو بكر بن مالك ، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني أبي ، ثنا يسار ، ثنا جعفر ، يعني ابن سليمان - ثنا ثابت البناني ، قال : كان سلمان في عصابة يذكرون الله عز وجل ، قال : فمر النبي صلى الله عليه وسلم فكفوا فقال : ما كنتم تقولون؟ فقلنا : نذكر الله يا رسول الله ، قال : قولوا فإني رأيت الرحمة تنزل عليكم فأحببت أن أشارككم فيها ، ثم [ ص: 343 ] قال : " الحمد لله جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم " . رواه مسلمة بن عبد الله عن عمه ، عن سلمان مطولا في قصة المؤلفة ، ذكرناه في نظائره في كتاب شرف الفقر .

              قال الشيخ رحمه الله : والمتحققون بالفقر من الصحابة وتابعيهم إلى قيام الساعة أمارة وأعلام الصدق لهم شاهرة ، وبواطنهم بمشاهدة الحق عامرة ; إذ الحق شاهدهم وسائسهم . والرسول صلى الله عليه وسلم سفيرهم ومؤدبهم ، وحق لمن أعرض عن الدنيا وغرورها ، وأقبل على العقبى وحبورها ، فعزفت نفسه عن الزائل الواهي ، ونابذ الزخارف والملاهي ، وشاهد صنع الواحد الباقي ، واستروح روائح المقبل الآتي من دوام الآخرة ونضرتها ، وخلود المجاورة وبهجتها ، وحضور الزيارة وزهرتها ، ومعاينة المعبود ولذتها ، أن يكون بما اختار له المعبود من الفقر راضيا ، وعما اقتطعه منه ساليا ، ولما ندبه إليه ساعيا ، ولخواطر قلبه راعيا ، ليصير في جملة المطهرين ، ويحشر في زمرة الضعفاء والمساكين ، ويقرب مما خص به الأبرار من المقربين ، فيغتنم ساعاته عن مخالطة المخلطين ، ويصون أوقاته عن مسالمة المبطلين ، ويجتهد في معاملة رب العالمين ، مقتديا في جميع أحواله بسيد السفراء والمرسلين .

              كذا حدثناه سليمان بن أحمد ، ثنا الحسين بن إسحاق التستري ، ثنا محمد بن أبي خلف ، ثنا يحيى بن عباد ، ثنا محمد بن عثمان الواسطي ، عن ثابت ، عن أنس ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أعجبه نحو الرجل أمره بالصلاة .

              قال الشيخ رحمه الله : استوطنوا الصفة فصفوا من الأكدار ، ونقوا من الأغيار ، وعصموا من حظوظ النفوس والأبشار ، وأثبتوا في جملة المصطنع لهم من الأبرار ، فأنزلوا في رياض النعيم ، وسقوا من خالص التسنيم .

              حدثنا أحمد بن جعفر بن حمدان ، ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، ثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، ثنا عمران بن عيينة ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ( ومزاجه من تسنيم ) قال : هو أشرف شراب أهل الجنة ، للمقربين صرفا ، وللناس مزاجا .

              [ ص: 344 ] قال الشيخ رحمه الله : وأهل الصفة هم أخيار القبائل والأقطار ، ألبسوا الأنوار . فاستطابوا الأذكار ، واستراحت لهم الأعضاء والأطوار ، واستنارت منهم البواطن والأسرار بما قدح فيها المعبود من الرضا والأخبار ، فأعرضوا عن المشغوفين بما غرهم ، ولهوا عن الجامعين لما ضرهم من الحطام الزائل البائد ، ومسالمة العدو الحاسد ، معتصمين بما حماهم به الواقي الذائد . فاجتزوا من الدنيا بالفلق ، ومن ملبوسها بالخرق ، لم يعدلوا إلى أحد سواه ، ولم يعولوا إلا على محبته ورضاه . رغبت الملائكة في زيارتهم وخلتهم ، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على محادثتهم ومجالستهم .

              حدثنا أبو بكر الطلحي ، ثنا عبيد بن عثام ، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، ثنا أحمد بن المفضل ، ثنا أسباط بن نصر ، عن السدي ، عن أبي سعيد الأزدي ، عن أبي الكنود ، عن خباب بن الأرت : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) قال : جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجد النبي صلى الله عليه وسلم قاعدا مع بلال وعمار وصهيب وخباب ، في أناس من الضعفاء المؤمنين . فلما رأوهم حقروهم فخلوا به ، فقالوا : إنا نحب أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلا ، فإن وفود العرب تأتيك فنستحي أن ترانا العرب قعودا مع هذه الأعبد ، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا . فإذا نحن فرغنا فأقعدهم إن شئت ، قال : نعم ، قالوا : فاكتب لنا عليك كتابا ، فدعا بالصحيفة ليكتب لهم ، ودعا عليا رضي الله عنه ليكتب ، فلما أراد ذلك ، ونحن قعود في ناحية ، إذ نزل جبريل عليه السلام ، فقال : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) إلى قوله : ( فتكون من الظالمين ) ثم ذكر الأقرع وصاحبه ، فقال : ( وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين ) . ثم ذكر فقال تعالى : ( وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة ) . فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصحيفة ودعانا فأتيناه وهو يقول : سلام عليكم ، فدنونا منه حتى وضعنا ركبنا على ركبته ، فكان رسول الله [ ص: 345 ] صلى الله عليه وسلم يجلس معنا ، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا . فأنزل الله عز وجل : ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ) . يقول : لا تعد عينك عنهم تجالس الأشراف : ( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ) . أما الذي أغفل قلبه فهو عيينة بن حصن والأقرع ، وأما ( فرطا ) فهلاكا . ثم ضرب لهم مثل الرجلين ومثل الحياة الدنيا ، قال : فكنا بعد ذلك نقعد مع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا بلغنا الساعة التي كان يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم ، وإلا صبر أبدا حتى نقوم .

              رواه عمر بن محمد العنقزي عن أسباط مثله .

              حدثنا أبو عمرو بن حمدان ، ثنا الحسن بن سفيان ، ثنا أبو وهب الحراني ، ثنا سليمان بن عطاء ، عن مسلمة بن عبد الله ، عن عمه ، عن سلمان الفارسي ، قال : جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس ، وذووهم فقالوا : يا رسول الله إنك لو جلست في صدر المسجد ، ونحيت عنا هؤلاء وأرواح جبابهم ، يعنون أبا ذر وسلمان وفقراء المسلمين ، وكان عليهم جباب الصوف لم يكن عندهم غيرها ، جلسنا إليك وخالصناك وأخذنا عنك ، أنزل الله عز وجل : ( واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته ولن تجد من دونه ملتحدا واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) حتى بلغ ( نارا أحاط بهم سرادقها ) يتهددهم بالنار ، فقام نبي الله يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم أمتي ، معكم المحيا ومعكم الممات " .

              حدثنا سليمان بن أحمد ، ثنا علي بن عبد العزيز ، ثنا أبو حذيفة ، ثنا سفيان الثوري ، عن المقدام بن شريح ، عن أبيه ، عن سعد بن أبي وقاص ، قال : نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم ابن مسعود ، قال : كنا نستبق إلى النبي ندنو إليه ، فقالت قريش : تدني هؤلاء دوننا؟ فكأن النبي صلى الله عليه وسلم هم بشيء ، فنزلت : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) [ ص: 346 ] الآية . رواه إسرائيل ، عن المقدام بن شريح نحوه .

              حدثناه أبو أحمد محمد بن أحمد ، ثنا عبد الله بن شيرويه ، ثنا إسحاق بن راهويه ، أخبرنا عبيد الله بن موسى ، ثنا إسرائيل ، عن المقدام بن شريح الحارثي ، عن أبيه ، عن سعد بن أبي وقاص ، قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ستة نفر ، فقال المشركون : اطرد هؤلاء عنك فإنهم ، وإنهم ، قال : فكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسمهما ، قال : فوقع في نفس النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك ما شاء الله ، فحدث به نفسه فأنزل الله عز وجل : ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) .

              حدثنا محمد بن أحمد ، ثنا عبد الله بن شيرويه ، ثنا إسحاق بن راهويه ، أخبرنا جرير ، عن أشعث بن سوار ، عن كردوس ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وبلال وخباب وعمار ، ونحوهم وناس من ضعفاء المسلمين ، فقالوا : يا رسول الله أرضيت بهؤلاء من قومك ؟ أفنحن نكون تبعا لهؤلاء؟ أهؤلاء الذين من الله عليهم؟ اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم اتبعناك . قال : فأنزل الله عز وجل : ( وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ) إلى قوله : ( فتكون من الظالمين ) . حدثنا عمر بن محمد بن حاتم ، ثنا محمد بن عبيد الله بن مرزوق ، ثنا عفان ، ثنا حماد بن سلمة ، ثنا ثابت ، عن معاوية بن قرة ، عن عائذ بن عمرو : أن أبا سفيان مر بسلمان وصهيب وبلال فقالوا : ما أخذت السيوف من عنق عدو الله مأخذها ، فقال لهم أبو بكر : تقولون هذا لشيخ قريش وسيدها ، ثم أتى النبي ، فأخبره بالذي قالوا : فقال : يا أبا بكر لعلك أغضبتهم ، والذي نفسي بيده لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك ، فرجع إليهم ، فقال : يا إخواني لعلي أغضبتكم؟ فقالوا : لا يا أبا بكر يغفر الله لك .

              حدثنا محمد بن عبد الله ، ثنا عبد المؤمن بن أحمد الجرجاني ، ثنا الحسين بن علي السمسار ، ثنا أبو عبد الرحمن المكتب ، ثنا المسيب بن شريك ، عن حميد ، عن أنس ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يرفع الله بهذا العلم [ ص: 347 ] أقواما فيجعلهم قادة يقتدى بهم في الخير ، وتقتص آثارهم ، وترمق أعمالهم ، وترغب الملائكة في خلتهم ، وبأجنحتها تمسحهم " .

              حدثنا سليمان بن أحمد ، ثنا هارون بن ملول ، ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ ، ثنا سعيد بن أبي أيوب ، ثنا معروف بن سويد الجذامي أن أبا عشانة المعافري حدثه أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص ، يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل تدرون أول من يدخل الجنة؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " فقراء المهاجرين الذين تتقى بهم المكاره ، يموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء فتقول الملائكة : ربنا نحن ملائكتك وسكان سمواتك لا تدخلهم الجنة قبلنا ، فيقول : عبادي لا يشركون بي شيئا تتقى بهم المكاره يموت أحدهم وحاجته في صدره لم يستطع لها قضاء ، فعند ذلك تدخل عليهم الملائكة من كل باب ( سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) " .

              حدثنا أبو محمد بن حيان ، ثنا عبد الله بن محمد بن سوار ، ثنا أبو هلال الأشعري ، ثنا محمد بن مروان ، عن ثابت الثمالي أبي حمزة ، عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم : ( أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ) . قال : الغرفة : الجنة ، بما صبروا : على الفقر في دار الدنيا .

              قال الشيخ رحمه الله : فأما أسامي أهل الصفة فقد رأيت لبعض المتأخرين تتبعا على ذكرهم وجمعهم على حروف المعجم ، وضم إلى ذكرهم فقراء المهاجرين الذين قدمنا ذكرهم . وسألني بعض أصحابنا الاحتذاء على كتابه وفي كتابه أسامي جماعة موهوم فيها ; لأن جماعة عرفوا من أهل القبة نسبوا إلى أهل الصفة وهو تصحيف من بعض النقلة ، وسنبين ذلك إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى . فممن بدأنا بذكره :

              التالي السابق


              الخدمات العلمية