الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا عطف على جملة وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا الآية ، وهذا دليل عليهم أن القرآن أنزل من عند الله أعقب به إبطال شبهتهم التي تقدم لإبطالها قوله : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا الآية ، أي كان وحينا إليك مثل كلامنا الذي كلمنا به من قبلك على ما صرح به في قوله تعالى : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده . والمقصود من هذا هو قوله : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان .

[ ص: 151 ] والإشارة إلى سابق في الكلام وهو المذكور آنفا في قوله : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا الآية ، أي ومثل الذي ذكر من تكليم الله وحينا إليك روحا من أمرنا ، فيكون على حد قول الحارث بن حلزة :


مثلها تخرج النصيحة للقوم فلاة من دونهـا أفـلاء



أي مثل نصيحتنا التي نصحناها للملك عمرو بن هند تكون نصيحة الأقوام بعضهم لبعض لأنها نصيحة قرابة ذوي أرحام .

ويجوز أن تكون الإشارة إلى ما يأتي من بعد وهو الإيحاء المأخوذ من ( أوحينا إليك ) أي مثل إيحائنا إليك أوحينا إليك ، أي لو أريد تشبيه إيحائنا إليك في رفعة القدر والهدى ما وجد له شبيه إلا نفسه على طريقة قوله تعالى : وكذلك جعلناكم أمة وسطا كما تقدم في سورة البقرة . والمعنى : إن ما أوحينا إليك هو أعز وأشرف وحي بحيث لا يماثله غيره .

وكلا المعنيين صالح هنا فينبغي أن يكون كلاهما محملا للآية على نحو ما ابتكرناه في المقدمة التاسعة من هذا التفسير . ويؤخذ من هذه الآية أن النبيء محمدا صلى الله عليه وسلم قد أعطي أنواع الوحي الثلاثة ، وهو أيضا مقتضى الغرض من مساق هذه الآيات .

والروح : ما به حياة الإنسان ، وقد تقدم عند قوله تعالى : ويسألونك عن الروح في سورة الإسراء . وأطلق الروح هنا مجازا على الشريعة التي بها اهتداء النفوس إلى ما يعود عليهم بالخير في حياتهم الأولى وحياتهم الثانية ، شبهت هداية عقولهم بعد الضلالة بحلول الروح في الجسد فيصير حيا بعد أن كان جثة .

ومعنى ( من أمرنا ) مما استأثرنا بخلقه وحجبناه عن الناس فالأمر المضاف إلى [ ص: 152 ] الله بمعنى الشأن العظيم ، كقولهم : أمر أمر فلان ، أي شأنه ، وقوله تعالى : بإذن ربهم من كل أمر .

والمراد بالروح من أمر الله : ما أوحي به إلى النبيء صلى الله عليه وسلم من الإرشاد والهداية سواء كان بتلقين كلام معين مأمور بإبلاغه إلى الناس بلفظه دون تغير وهو الوحي القرآني المقصود منه أمران : الهداية والإعجاز ، أم كان غير مقيد بذلك بل الرسول مأمور بتبليغ المعنى دون اللفظ وهو ما يكون بكلام غير مقصود به الإعجاز ، أو بإلقاء المعنى إلى الرسول بمشافهة الملك ، وللرسول في هذا أن يتصرف من ألفاظ ما أوحي إليه بما يريد التعبير به أو برؤيا المنام أو بالإلقاء في النفس كما تقدم .

واختتام هذه السورة بهذه الآية مع افتتاحها بقوله : كذلك يوحي إليك الآية فيه محسن رد العجز على الصدر .

وجملة ما كنت تدري ما الكتاب في موضع الحال من ضمير ( أوحينا ) أي أوحينا إليك في حال انتفاء علمك بالكتاب والإيمان ، أي أفضنا عليك موهبة الوحي في حال خلوك عن علم الكتاب وعلم الإيمان . وهذا تحد للمعاندين ليتأملوا في حال الرسول صلى الله عليه وسلم فيعلموا أن ما أوتيه من الشريعة والآداب الخلقية هو من مواهب الله تعالى التي لم تسبق له مزاولتها ، ويتضمن امتنانا عليه وعلى أمته المسلمين .

ومعنى عدم دراية الكتاب : عدم تعلق علمه بقراءة كتاب أو فهمه .

ومعنى انتفاء دراية الإيمان : عدم تعلق علمه بما تحتوي عليه حقيقة الإيمان الشرعي من صفات الله وأصول الدين وقد يطلق الإيمان على ما يرادف الإسلام كقوله تعالى : وما كان الله ليضيع إيمانكم وهو الإيمان الذي يزيد وينقص كما في قوله تعالى : ويزداد الذين آمنوا إيمانا ، فيزاد في معنى عدم دراية الإيمان انتفاء تعلق علم الرسول صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام . فانتفاء درايته بالإيمان مثل انتفاء درايته بالكتاب ، أي انتفاء العلم بحقائقه ولذلك قال ما كنت تدري ولم يقل : ما كنت مؤمنا .

[ ص: 153 ] وكلا الاحتمالين لا يقتضي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن مؤمنا بوجود الله ووحدانية إلهيته قبل نزول الوحي عليه إذ الأنبياء والرسل معصومون من الشرك قبل النبوءة فهم موحدون لله ونابذون لعبادة الأصنام ، ولكنهم لا يعلمون تفاصيل الإيمان ، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم في عهد جاهلية قومه يعلم بطلان عبادة الأصنام ، وإذ قد كان قومه يشركون مع الله غيره في الإلهية فبطلان إلهية الأصنام عنده تمحضه لإفراد الله بالإلهية لا محالة .

وقد أخبر بذلك عن نفسه فيما رواه أبو نعيم في دلائل النبوءة عن شداد بن أوس وذكره عياض في الشفاء غير معزو : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما نشأت - أي عقلت - بغضت إلي الأوثان وبغض إلي الشعر ، ولم أهم بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين فعصمني الله منهما ثم لم أعد .

وعلى شدة منازعة قريش إياه في أمر التوحيد فإنهم لم يحاجوه بأنه كان يعبد الأصنام معهم .

وفي هذه الآية حجة للقائلين بأن رسول صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبدا قبل نبوءته بشرع .

وإدخال ( لا ) النافية في قوله ولا الإيمان تأكيد لنفي درايته إياه ، أي ما كنت تدري الكتاب ولا الإيمان ، للتنصيص على أن المنفي دراية كل واحد منهما .

وقوله : ولكن جعلناه نورا عطف على جملة ما كنت تدري ما الكتاب . وضمير جعلناه عائد إلى الكتاب في قوله : ما كنت تدري ما الكتاب . والتقدير : وجعلنا الكتاب نورا . وأقحم في الجملة المعطوفة حرف الاستدراك للتنبيه على أن مضمون هذه الجملة عكس مضمون جملة ما كنت تدري ما الكتاب .

والاستدراك ناشئ على ما تضمنته جملة ما كنت تدري ما الكتاب لأن ظاهر نفي دراية الكتاب أن انتفاءها مستمر فاستدرك بأن الله هداه ، بالكتاب وهدى به أمته ، فالاستدراك واقع في المحز . والتقدير : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ثم هديناك بالكتاب ابتداء وعرفناك به الإيمان وهديت به الناس ثانيا [ ص: 154 ] فاهتدى به من شئنا هدايته ، أي وبقي على الضلال من لم نشأ له الاهتداء ، كقوله تعالى : يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا .

وشبه الكتاب بالنور لمناسبة الهدي به لأن الإيمان والهدى والعلم تشبه بالنور ، والضلال والجهل والكفر تشبه بالظلمة ، قال تعالى : يخرجهم من الظلمات إلى النور . وإذا كان السائر في الطريق في ظلمة ضل عن الطريق فإذا استنار له اهتدى إلى الطريق ، فالنور وسيلة الاهتداء ولكن إنما يهتدي به من لا يكون له حائل دون الاهتداء وإلا لم تنفعه وسيلة الاهتداء ولذلك قال تعالى : نهدي به من نشاء من عبادنا ، أي نخلق بسببه الهداية في نفوس الذين أعددناهم للهدى من عبادنا .

فالهداية هنا هداية خاصة وهي خلق الإيمان في القلب .

التالي السابق


الخدمات العلمية