الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 180 ] 11

ذكر أحداث سنة إحدى عشرة

في المحرم من هذه السنة ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثا إلى الشام ، وأميرهم أسامة بن زيد مولاه ، وأمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين ، فتكلم المنافقون في إمارته ، وقالوا : أمر غلاما على جلة المهاجرين والأنصار . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إن تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل ، وإنه لخليق للإمارة ، وكان أبوه خليقا لها . وأوعب مع أسامة المهاجرون الأولون ، منهم : أبو بكر وعمر ، فبينما الناس على ذلك ابتدئ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرضه .

ذكر مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووفاته

ابتدئ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرضه أواخر صفر ، في بيت زينب بنت جحش ، وكان يدور على نسائه حتى اشتد مرضه في بيت ميمونة ، فجمع نساءه ، فأستأذنهن أن يتمرض في بيت عائشة ، ووصلت أخبار بظهور الأسود العنسي باليمن ، ومسيلمة باليمامة ، وطليحة في بني أسد ، وعسكر بسميراء ، وسيجيء ذكر أخبارهم إن شاء الله - تعالى - .

فتأخر مسير أسامة لمرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولخبر الأسود العنسي ومسيلمة ، فخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - عاصبا رأسه من الصداع قال : إني رأيت فيما يرى النائم أن في عضدي سوارين من ذهب ، فنفختهما فطارا ، فأولتهما بكذاب اليمامة وكذاب صنعاء . وأمر بإنفاذ جيش أسامة وقال : لعن الله الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .

[ ص: 181 ] وخرج أسامة فضرب الجرف العسكر وتمهل الناس ، وثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يشغله شدة مرضه عن إنفاذ أمر الله ، فأرسل إلى نفر من الأنصار في أمر الأسود ، فأصيب الأسود في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل وفاته بيوم ، فأرسل إلى جماعة من الناس يحثهم على جهاد من عندهم من المرتدين .

وقال أبو مويهبة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أيقظني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة وقال : إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع ، فانطلق معي . فانطلقت معه ، فسلم عليهم ، ثم قال : ليهنئكم ما أصبحتم فيه ، قد أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم . ثم قال : قد أوتيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد بها ، ثم الجنة ، وخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي ، فاخترت لقاء ربي . ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف ، فبدئ بمرضه الذي قبض فيه .

قالت عائشة : فلما رجع من البقيع وجدني وأنا أجد صداعا وأنا أقول : وارأساه ! قال : بل أنا والله يا عائشة وارأساه ! ثم قال : ما ضرك لو مت قبلي ، فقمت عليك وكفنتك ، وصليت عليك ودفنتك ؟ فقلت : كأني بك والله لو فعلت ذلك ، فرجعت إلى بيتي فعرست ببعض نسائك . فتبسم ، وتتام به وجعه ، وتمرض في بيتي .

فخرج منه يوما بين رجلين أحدهما الفضل بن العباس ، والآخر علي ، قال الفضل : فأخرجته حتى جلس على المنبر ، فحمد الله ، وكان أول ما تكلم به النبي - صلى الله عليه وسلم - أن صلى على أصحاب أحد ، فأكثر واستغفر لهم ، ثم قال : أيها الناس ، إنه قد دنا مني حقوق من بين أظهركم ، فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه ، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه ، ومن أخذت له مالا فهذا مالي فليأخذ منه ، ولا يخش الشحناء من قبلي ، فإنها ليست من شأني ، ألا وإن أحبكم إلي من أخذ [ ص: 182 ] مني حقا إن كان له ، أو حللني فلقيت ربي وأنا طيب النفس .

ثم نزل فصلى الظهر ، ثم رجع إلى المنبر ، فعاد لمقالته الأولى . فادعى عليه رجل بثلاثة دراهم ، فأعطاه عوضا . ثم قال : أيها الناس ، من كان عنده شيء فليؤده ، ولا يقل : فضوح الدنيا ، ألا وإن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة . ثم صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم ، ثم قال : إن عبدا خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده ، فاختار ما عنده . فبكى أبو بكر وقال : فديناك بأنفسنا وآبائنا ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لا يبقين في المسجد باب إلا باب أبي بكر ، فإني لا أعلم أحدا أفضل في الصحبة عندي منه ، ولو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ، ولكن أخوة الإسلام .

ثم أوصى بالأنصار فقال : يا معشر المهاجرين ، أصبحتم تزيدون ، وأصبحت الأنصار لا تزيد ، والأنصار عيبتي التي أويت إليها ، فأكرموا كريمهم ، وتجاوزوا عن مسيئهم
.

قال ابن مسعود : نعى إلينا نبينا وحبيبنا نفسه قبل موته بشهر . فلما دنا الفراق جمعنا في بيت عائشة ، فنظر إلينا فشدد ، ودمعت عيناه وقال : مرحبا بكم ، حياكم الله ، رحمكم الله ، آواكم الله ، حفظكم الله ، رفعكم الله ، وفقكم الله ، سلمكم الله ، قبلكم الله ، أوصيكم بتقوى الله ، وأوصي الله بكم ، وأستخلفه عليكم ، وأؤديكم إليه ، إني لكم منه نذير وبشير ، ألا تعلوا على الله في عباده وبلاده ، فإنه قال لي ولكم : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين . قلنا : فمتى أجلك ؟ قال : دنا الفراق ، والمنقلب إلى الله ، وسدرة المنتهى ، والرفيق الأعلى ، وجنة المأوى . فقلنا : من يغسلك ؟ قال : أهلي . قلنا : فيم نكفنك ؟ قال : في ثيابي أو في بياض . قلنا : فمن يصلي عليك ؟ قال : مهلا ، غفر الله لكم وجزاكم عن نبيكم خيرا . [ ص: 183 ] فبكينا وبكى ، ثم قال : ضعوني على سريري على شفير قبري ، ثم اخرجوا عني ساعة ليصلي علي جبرائيل وإسرافيل وميكائيل وملك الموت مع الملائكة ، ثم ادخلوا علي فوجا فصلوا علي ، ولا تؤذوني بتزكية ولا رنة ، أقرئوا أنفسكم مني السلام ، ومن غاب من أصحابي فأقرئوه مني السلام ، ومن تابعكم على ديني فأقرئوه السلام .

قال ابن عباس : يوم الخميس ، وما يوم الخميس ! - ثم جرت دموعه على خديه - اشتد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرضه ووجعه ، فقال : ايتوني بدواة وبيضاء أكتب لكم كتابا لا تضلون بعدي أبدا . فتنازعوا - ولا ينبغي عند نبي تنازع - فقالوا : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهجر . فجعلوا يعيدون عليه فقال : دعوني ، فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه . فأوصى بثلاث : أن يخرج المشركون من جزيرة العرب ، وأن يجاز الوفد بنحو مما كان يجيزهم . وسكت عن الثالثة عمدا ، أو قال : نسيتها .

وخرج علي بن أبي طالب من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه . فقال الناس : كيف أصبح رسول الله ؟ قال : أصبح بحمد الله بارئا . فأخذ بيده العباس فقال : أنت بعد ثلاث عبد العصا ، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيتوفى في مرضه هذا ، وإني لأعرف الموت في وجوه بني عبد المطلب ، فاذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاسأله فيمن يكون هذا الأمر ، فإن كان فينا علمناه ، وإن كان في غيرنا أمره أوصى بنا . فقال علي : لئن سألناها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنعناها ، لا يعطيناها الناس أبدا ، والله لا أسألها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبدا .

قال : فما اشتد الضحى حتى توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . قالت عائشة : قالت أسماء بنت عميس : ما وجعه إلا ذات الجنب ، فلو لددتموه ، ففعلوا . فلما أفاق قال : لم فعلتم هذا ؟ قالوا : ظننا أن بك ذات الجنب . قال : لم يكن الله ليسلطها علي . ثم قال : لا تبقن أحدا لددتموه إلا عمي ، وكان العباس حاضرا ، ففعلوا .

قال أسامة : لما ثقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هبطت أنا ومن معي إلى المدينة ، فدخلنا عليه وقد صمت فلا يتكلم ، فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها علي ، فعلمت أنه يدعو لي .

[ ص: 184 ] قالت عائشة : وكنت أسمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول كثيرا : إن الله لم يقبض نبيا حتى يخيره . قالت : فلما احتضر كان آخر كلمة سمعتها منه وهو يقول : بل الرفيق الأعلى . قالت : قلت : إذا والله لا يختارنا ، وعلمت أنه تخير .

ولما اشتد مرضه أذنه بلال بالصلاة فقال : مروا أبا بكر يصلي بالناس . قالت عائشة : فقلت : إنه رجل رقيق ، وإنه متى يقوم مقامك لا يطيق ذلك . فقال : مروا أبا بكر فيصلي بالناس . فقلت مثل ذلك ، فغضب ، وقال : إنكن صواحب يوسف ، مروا أبا بكر يصلي بالناس . فتقدم أبو بكر ، فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خفة فخرج بين رجلين ، فلما دنا من أبي بكر تأخر أبو بكر ، فأشار إليه أن قم مقامك ، فقعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى جنب أبي بكر جالسا ، فكان أبو بكر يصلي بصلاة النبي ، والناس يصلون بصلاة أبي بكر .

وصلى أبو بكر بالناس سبع عشرة صلاة ، وقيل : ثلاثة أيام .

ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج في اليوم الذي توفي فيه إلى الناس في صلاة الصبح ، فكاد الناس يفتتنون في صلاتهم ؛ فرحا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرحا لما رأى من هيئتهم في الصلاة ، ثم رجع وانصرف الناس وهم يظنون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أفاق من وجعه ، ورجع أبو بكر إلى منزله بالسنح .

[ ص: 185 ] قالت عائشة : رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يموت وعنده قدح فيه ماء ، يدخل يده في القدح ، ثم يمسح وجهه بالماء ، ثم يقول : اللهم أعني على سكرات الموت . قال : ثم دخل بعض آل أبي بكر وفي يده سواك ، فنظر إليه نظرا عرفت أنه يريده ، فأخذته فلينته ، ثم ناولته إياه ، فاستن به ثم وضعه ، ثم ثقل في حجري ، قالت : فذهبت أنظر في وجهه ، وإذا بصره قد شخص وهو يقول : بل الرفيق الأعلى . فقبض .

قالت : توفي وهو بين سحري ونحري ، فمن سفهي وحداثة سني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبض في حجري ، فوضعت رأسه على وسادة ، وقمت ألتدم مع النساء وأضرب وجهي .

ولما اشتد برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعه ، ونزل به الموت - جعل يأخذ الماء بيده ويجعله على وجهه ، ويقول : واكرباه ! فتقول فاطمة : واكربي لكربك يا أبتي ! فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لا كرب على أبيك بعد اليوم . فلما رأى شدة جزعها استدناها وسارها ، فبكت ، ثم سارها فضحكت ، فلما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألتها عائشة عن ذلك ، قالت : أخبرني أنه ميت ، فبكيت ، ثم أخبرني أني أول أهله لحوقا به ، فضحكت .

وروي عنها أنها قالت : ثم سارني الثانية ، وأخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة ، فضحكت .

وكان موته يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول ، ودفن من الغد نصف النهار ، وقيل : مات نصف النهار يوم الاثنين ، لليلتين بقيتا من ربيع الأول .

ولما توفي كان أبو بكر بمنزله بالسنح ، وعمر حاضر ، فلما توفي قام عمر فقال : إن رجالا من المنافقين يزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي ، وإنه والله ما مات ، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران ، والله ليرجعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فليقطعن أيدي [ ص: 186 ] رجال وأرجلهم زعموا أنه مات .

وأقبل أبو بكر وعمر يكلم الناس ، فدخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مسجى في ناحية البيت ، فكشف عن وجهه ثم قبله ، وقال : بأبي أنت وأمي ، طبت حيا وميتا ، أما الموتة التي كتب الله عليك فقد ذقتها . ثم رد الثوب على وجهه ، ثم خرج وعمر يكلم الناس ، فأمره بالسكوت فأبى ، فأقبل أبو بكر على الناس ، فلما سمع الناس كلامه أقبلوا عليه وتركوا عمر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : أيها الناس ، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، ثم تلا هذه الآية : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين . قال : فوالله لكأن الناس ما سمعوها إلا منه . قال عمر : فوالله ما هو إلا إذ سمعتها فعقرت حتى وقعت على الأرض ما تحملني رجلاي ، وقد علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد مات .

ولما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووصل خبره إلى مكة ، وعامله عليها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية ، استخفى عتاب وارتجت مكة ، وكاد أهلها يرتدون ، فقام سهيل بن عمرو على باب الكعبة وصاح بهم ، فاجتمعوا إليه ، فقال : يا أهل مكة ، لا تكونوا آخر من أسلم وأول من ارتد ، والله ليتمن الله هذا الأمر كما ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلقد رأيته قائما مقامي هذا وحده وهو يقول : قولوا معي : لا إله إلا الله تدن لكم العرب ، وتؤد إليكم العجم الجزية ، والله لتنفقن كنوز كسرى وقيصر في سبيل الله - فمن بين مستهزئ ومصدق ، فكان ما رأيتم ، والله ليكونن الباقي . فامتنع الناس من الردة . وهذا المقام الذي قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أسر سهيل بن عمرو في بدر لعمر بن الخطاب ، وقد ذكر هناك .

التالي السابق


الخدمات العلمية