الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه

جملة في موضع الحال من ضمير ( فاطر ) لأن مضمونها حال من أحوال [ ص: 44 ] فطر السماوات والأرض . فإن خلق الإنسان والأنعام من أعجب أحوال خلق الأرض .

ويجوز كونها خبرا ثالثا عن ضمير وهو على كل شيء قدير .

والمعنى : قدر في تكوين نوع الإنسان أزواجا لأفراده ، ولما كان ذلك التقدير مقارنا لأصل تكوين النوع جيء فيه بالفعل الماضي .

والخطاب في قوله : لكم للناس كلهم . والخطاب التفات من الغيبة . واللام للتعليل . وتقديم لكم على غيره من معمولات جعل ليعرف أنه معمول لذلك الفعل فلا يتوهم أنه صفة لـ أزواجا ، وليكون التعليل به ملاحظا في المعطوف بقوله : ومن الأنعام أزواجا .

والأزواج : جمع زوج وهو الذي ينضم إلى فرد فيصير كلاهما زوجا للآخر والمراد هنا : الذكور والإناث من الناس ، أي جعل لمجموعكم أزواجا ، فللذكور أزواج من الإناث ، وللنساء أزواج من الرجال ، وذلك لأجل الجميع لأن بذلك الجعل حصلت لذة التأنس ونعمة النسل .

ومعنى ( من أنفسكم ) من نوعكم ، ومن بعضكم ، كقوله : فسلموا على أنفسكم وقوله : ولا تقتلوا أنفسكم . وكون الأزواج من أنفسهم كمال في النعمة لأنه لو جعل أحد الزوجين من نوع آخر لفات نعيم الأنس ، وأما زعم العرب في الجاهلية أن الرجل قد يتزوج جنية أو غولا فذلك من التكاذيب وتخيلات بعضهم ، وربما عرض لبعض الناس خبال في العقل خاص بذلك فتخيل ذلك وتحدث به فراج عن كل أبله .

وقوله : ومن الأنعام أزواجا عطف على ( أزواجا ) الأول فهو كمفعول لـ ( جعل ) والتقدير : وجعل من الأنعام أزواجا ، أي جعل منها أزواجا بعضها لبعض . وفائدة ذكر أزواج الأنعام دون أزواج الوحش : أن في أنواع الأنعام فائدة لحياة الإنسان لأنها تعيش معه ولا تنفر منه ، وينتفع بألبانها ، وأصوافها ، ولحومها ، ونسلها ، وعملها من حمل وحرث ، فبجعلها أزواجا حصل معظم نفعها للإنسان .

[ ص: 45 ] والذرء : بث الخلق وتكثيره ، ففيه معنى توالي الطبقات على مر الزمان إذ لا منفعة للناس من أزواج الأنعام باعتبارها أزواجا سوى ما يحصل من نسلها .

وضمير الخطاب في قوله ( يذرؤكم ) للمخاطبين بقوله ( جعل لكم ) . ومراد شموله لجعل أزواج من الأنعام المتقدم ذكره ؛ لأن ذكر أزواج الأنعام لم يكن هملا بل مرادا منه زيادة المنة فإن ذرء نسل الإنسان نعمة للناس وذرء نسل الأنعام نعمة أخرى للناس ، ولذلك اكتفى بذكر الأزواج في جانب الأنعام عن ذكر الذرء إذ لا منفعة للناس في تزاوج الأنعام سوى ما يحصل من نسلها .

وإذ كان الضمير ضمير جماعة العقلاء وكان ضمير خطاب في حين أن الأنعام ليست عقلاء ولا مخاطبة ، فقد جاء في ذلك الضمير تغليب العقلاء إذ لم يذكر ضمير صالح للعقلاء وغيرهم كأن يقال : يذراك بكسر الكاف على تأويل إرادة خطاب الجماعة .

وجاء فيه تغليب الخطاب على الغيبة ، فقد جاء فيه تغليبان . وهو تغليب دقيق ؛ إذ اجتمع في لفظ واحد نوعان من التغليب كما أشار إليه الكشاف والسكاكي في مبحث التغليب من المفتاح .

وضمير ( فيه ) عائد إلى الجعل المفهوم من قوله ( جعل لكم ) أي في الجعل المذكور على حد قوله : اعدلوا هو أقرب للتقوى .

وجيء بالمضارع في ( يذرؤكم ) لإفادة التجدد ، والتجدد أنسب بالامتنان .

وحرف ( في ) مستعار لمعنى السببية تشبيها للسبب بالظرف في احتوائه على مسبباته كاحتواء المنبع على مائه والمعدن على ترابه ومثله قوله تعالى : ولكم في القصاص حياة .

التالي السابق


الخدمات العلمية