الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 183 ] 598

ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وخمسمائة

ذكر ملك خوارزم شاه ما كان أخذه الغورية من بلاده

قد ذكرنا في سنة سبع وتسعين [ وخمسمائة ] ملك غياث الدين وأخيه شهاب الدين ما كان لخوارزم شاه محمد بن تكش بخراسان ، ومرو ، ونيسابور ، وغيرها ، وعودهما عنها بعد أن أقطعا البلاد ، ومسير شهاب الدين إلى الهند ، فلما اتصل بخوارزم شاه علاء الدين محمد بن تكش عود العساكر الغورية عن خراسان ، ودخول شهاب الدين الهند ، أرسل إلى غياث الدين يعاتبه ، ويقول : كنت أعتقد أن تخلف علي بعد أبي ، وأن تنصرني على الخطا ، وتردهم عن بلادي ، فحيث لم تفعل فلا أقل من أن لا تؤذيني وتأخذ بلادي ، والذي أريده أن تعيد ما أخذته مني إلي ، وإلا استنصرت عليك بالخطا وغيرهم من الأتراك ، إن عجزت عن أخذ بلادي ، فإنني إنما شغلني عن منعكم عنها الاشتغال بعزاء والدي وتقرير أمر بلادي ، وإلا فما أنا عاجز عنكم وعن أخذ بلادكم بخراسان وغيرها ، فغالطه غياث الدين في الجواب لتمتد الأيام بالمراسلات ، ويخرج أخوه شهاب الدين من الهند بالعساكر ، فإن غياث الدين كان عاجزا باستيلاء النقرس عليه .

فلما وقف خوارزم شاه على رسالة غياث الدين أرسل إلى علاء الدين الغوري نائب غياث الدين بخراسان ، يأمره بالرحيل عن نيسابور ، ويتهدده إن لم يفعل ، فكتب علاء الدين إلى غياث الدين بذلك ، ويعرفه ميل أهل البلد إلى الخوارزميين فأعاد غياث الدين جوابه يقوي قلبه ، ويعده النصرة والمنع عنه .

[ ص: 184 ] وجمع خوارزم شاه عساكره وسار عن خوارزم نصف ذي الحجه سنة سبع وتسعين وخمسمائة ، فلما قارب نسا وأبيورد هرب هندوخان ابن أخي ملكشاه من مرو إلى غياث الدين بفيروزكوه ، وملك خوارزم شاه مدينة مرو ، وسار إلى نيسابور وبها علاء الدين ، فحصره ، وقاتله قتالا شديدا ، وطال مقامه عليها ، وراسله غير مرة في تسليم البلد إليه ، وهو لا يجيب إلى ذلك انتظارا للمدد من غياث الدين ، فبقي نحو شهرين ، فلما أبطأ عنه النجدة أرسل إلى خوارزم شاه يطلب الأمان لنفسه ولمن معه من الغورية ، وأنه لا يتعرض إليهم بحبس ولا غيره من الأذى ، فأجابه إلى ذلك ، وحلف لهم ، وخرجوا من البلد وأحسن خوارزم شاه إليهم ، ووصلهم بمال جليل وهدايا كثيرة ، وطلب من علاء الدين أن يسعى في الصلح بينه وبين غياث الدين وأخيه ، فأجابه إلى ذلك .

وسار إلى هراة ، ومنها إلى إقطاعه ، ولم يمض إلى غياث الدين تجنيا عليه لتأخر أمداده ، ولما خرج الغورية من نيسابور أحسن خوارزم شاه إلى الحسين بن خرميل ، وهو من أعيان أمرائهم ، زيادة على غيره ، وبالغ في إكرامه ، فقيل إنه من ذلك اليوم استحلفه لنفسه ، وأن يكون معه بعد غياث الدين وأخيه شهاب الدين .

ثم سار خوارزم شاه إلى سرخس ، وبها الأمير زنكي ، فحصره أربعين يوما ، وجرى بين الفريقين حروب كثيرة ، فضاقت الميرة على أهل البلد ، لا سيما الحطب ، فأرسل زنكي إلى خوارزم شاه يطلب منه أن يتأخر عن باب البلد حتى يخرج هو وأصحابه ويترك البلد له ، فراسله خوارزم شاه في الاجتماع به ليحسن إليه وإلى من معه ، فلم يجبه إلى ذلك واحتج بقرب نسبه من غياث الدين ، فأبعد خوارزم شاه عن باب البلد بعساكره ، فخرج زنكي فأخذ من الغلات وغيرها التي في المعسكر ما أراد لا سيما من الحطب ، وعاد إلى البلد وأخرج منه من كان قد ضاق به الأمر ، وكتب إلى خوارزم شاه : العود أحمد ، فندم حيث لم ينفعه الندم ، ورحل عن البلد ، وترك عليه جماعة من الأمراء يحصرونه .

فلما أبعد خوارزم شاه سار محمد بن جربك من الطالقان ، وهو من أمراء الغورية ، وأرسل إلى زنكي أمير سرخس يعرفه أنه يريد أن يكبس الخوارزميين لئلا ينزعج إذا سمع الغلبة ، وسمع الخوارزميون الخبر ، ففارقوا سرخس ، وخرج زنكي ولقي محمد بن جربك وعسكرا في مرو الروذ ، وأخذ خراجها وما يجاورها ، فسير [ ص: 185 ] إليهم خوارزم شاه عسكرا مع خاله ، فلقيهم محمد بن جربك وقاتلهم ، وحمل بلت في يده على صاحب علم الخوارزمية فضربه فقتله ، وألقى علمهم ، وكسر كوساتهم ، فانقطع صوتها عن العسكر ، ولم يروا أعلامهم ، فانهزموا ، وركبهم الغورية قتلا وأسرا نحو فرسخين ، فكانوا ثلاثة آلاف فارس وابن جربك في تسع مائة فارس ، وغنم جميع معسكرهم ، فلما سمع خوارزم شاه ذلك عاد إلى خوارزم ، وأرسل إلى غياث الدين في الصلح ، فأجابه عن رسالته مع أمير كبير من الغورية يقال له الحسين بن محمد المرغني ، ومرغن من قرى الغور ، فقبض عليه خوارزم شاه .

التالي السابق


الخدمات العلمية