الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء .

استئناف معترض به بين قوله إن تبدوا الصدقات وبين قوله وما تنفقوا من خير فلأنفسكم ومناسبته هنا أن الآيات المتقدمة يلوح من خلالها أصناف من الناس ، منهم الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، ومنهم الذين يبطلون صدقاتهم بالمن والأذى ، ومنهم الذين يتيممون الخبيث منه ينفقون ، ومنهم من يعدهم الشيطان الفقر ويأمرهم بالفحشاء ، وكان وجود هذه الفرق مما يثقل على النبيء - صلى الله عليه وسلم - فعقب الله ذلك بتسكين نفس رسوله والتهوين عليه بأن ليس عليه هداهم ولكن عليه البلاغ ، فالهدى هنا بمعنى الإلجاء لحصول الهدى في قلوبهم ، وأما الهدى بمعنى التبليغ والإرشاد فهو على النبيء ، ونظائر هذا في القرآن كثيرة ، فالضمير راجع إلى جميع من بقي فيهم شيء من عدم الهدى وأشدهم المشركون والمنافقون ، وقيل الضمير راجع إلى ناس معروفين ، روي أنه كان لأسماء بنت أبي بكر أم كافرة وجد كافر فأرادت أسماء - عام عمرة القضية - أن تواسيهما بمال ، وأنه أراد بعض الأنصار الصدقة على قرابتهم وأصهارهم في بني النضير وقريظة ، فنهى [ ص: 70 ] النبيء - صلى الله عليه وسلم - المسلمين عن الصدقة على الكفار ، إلجاء لأولئك الكفار على الدخول في الإسلام ، فأنزل الله تعالى : ليس عليك هداهم الآيات ، أي هدى الكفار إلى الإسلام ، أي فرخص للمسلمين الصدقة على أولئك الكفار .

فالضمير عائد إلى معلوم للمخاطب ، فيكون نزول الآية لذلك السبب ناشئا عن نزول آيات الأمر بالإنفاق والصدقة ، فتكون الآيات المتقدمة سبب السبب لنزول هذه الآية .

والمعنى أن ليس عليك أن تهديهم بأكثر من الدعوة والإرشاد ، دون هداهم بالفعل أو الإلجاء ، إذ لا هادي لمن يضلل الله ، وليس مثل هذا بميسر للهدى .

والخطاب في ليس عليك هداهم ظاهره أنه خطاب للرسول على الوجه الأول الذي ذكرناه في معاد ضمير ( هداهم ) ويجوز أن يكون خطابا لمن يسمع على الوجه الآتي في الضمير إذا اعتبرنا ما ذكروه في سبب النزول ، أي ليس عليك أيها المتردد في إعطاء قريبك .

و ( على ) في قوله : ( عليك ) للاستعلاء المجازي ، أي طلب فعل على وجه الوجوب . والمعنى : ليس ذلك بواجب على الرسول ، فلا يحزن على عدم حصول هداهم لأنه أدى واجب التبليغ ، أو المعنى : ليس ذلك بواجب عليكم أيها المعالجين لإسلامهم بالحرمان من الإنفاق حتى تسعوا إلى هداهم بطرق الإلجاء .

وتقديم الظرف وهو " عليك " على المسند إليه وهو " هداهم " إذا أجري على ما تقرر في علم المعاني من أن تقديم المسند الذي حقه التأخير يفيد قصر المسند إليه على المسند وكان ذلك في الإثبات بينا لا غبار عليه نحو لكم دينكم ولي دين وقوله لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت - فهو إذا وقع في سياق النفي غير بين ؛ لأنه إذا كان التقديم في صورة الإثبات مفيدا للحصر اقتضى أنه إذا نفي فقد نفي ذلك الانحصار ، لأن الجملة المكيفة بالقصر في حالة الإثبات هي جملة مقيدة نسبتها بقيد الانحصار ؛ أي بقيد انحصار موضوعها في معنى محمولها ، فإذا دخل عليها النفي كان مقتضيا نفي النسبة المقيدة أي نفي ذلك الانحصار ، لأن شأن النفي إذا توجه إلى كلام مقيد أن ينصب على ذلك القيد .

[ ص: 71 ] لكن أئمة الفن حين ذكروا أمثلة تقديم المسند على المسند إليه سووا فيها بين الإثبات - كما ذكرنا - وبين النفي نحو لا فيها غول فقد مثل به في الكشاف عند قوله تعالى : لا ريب فيه فقال : قصد تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا ، وقال السيد في شرحه هنالك : عد قصرا للموصوف على الصفة ؛ أي الغول مقصور على عدم الحصول في خمور الجنة لا يتعداه إلى عدم الحصول فيما يقابلها ، أو عدم الغول مقصور على الحصول فيها لا يتجاوزه إلى الحصول في هذه الخمور .

وقد أحلت عند قوله تعالى : لا ريب فيه على هذه الآية هنا ، فبنا أن نبين طريقة القصر بالتقديم في النفي ، وهي أن القصر لما كان كيفية عارضة للتركيب ولم يكن قيدا لفظيا بحيث يتوجه النفي إليه كانت تلك الكيفية مستصحبة مع النفي ، فنحو لا فيها غول يفيد قصر الغول على الانتفاء عن خمور الدنيا ولا يفيد نفي قصر الغول على الكون في خمور الجنة ، وإلى هذا أشار السيد في شرح الكشاف عند قوله لا ريب فيه إذ قال : وبالجملة يجعل حرف النفي جزءا أو حرفا من حروف المسند أو المسند إليه ، وعلى هذا بنى صاحب الكشاف ؛ فجعل وجه أن لم يقدم الظرف في قوله : لا ريب فيه كما قدم الظرف في قوله : لا فيها غول لأنه لو أول لقصد أن كتابا آخر فيه الريب ، لا في القرآن ، وليس ذلك بمراد .

فإذا تقرر هذا فقوله : ليس عليك هداهم إذا أجري على هذا المنوال كان مفاده : هداهم مقصور على انتفاء كونه عليك ، فيلزم منه استفادة إبطال انتفاء كونه على غير المخاطب ، أي إبطال انتفاء كونه على الله ، وكلا المفادين غير مراد إذ لا يعقد الأول ولا الثاني ، فالوجه : إما أن يكون التقديم هنا لمجرد الاهتمام كتقديم يوم الندى في قول الحريري :


ما فيه من عيب سوى أنه يوم الندى قسمته ضيزى

بنفي كون هداهم حقا على الرسول تهوينا للأمر عليه ، فأما الدلالة على كون ذلك مفوضا إلى الله فمن قوله ولكن الله يهدي من يشاء وإما أن يكون جرى على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل السامعين منزلة من يعتقد أن إيجاد الإيمان في الكفار يكون بتكوين الله وبالإلجاء من المخلوق ، فقصر هداهم على عدم الكون في إلجاء المخلوقين إياهم لا على عدم الكون في أنه على الله ، فيلزم من ذلك أنه على الله ، أي مفوض إليه .

[ ص: 72 ] وقوله : ولكن الله يهدي من يشاء جيء فيه بحرف الاستدراك لما في الكلام المنفي من توهم إمكان هديهم بالحرص أو بالإلجاء ، فمصب الاستدراك هو الصلة ، أعني من يشاء أي : فلا فائدة في إلجاء من لم يشأ الله هديه . والتقدير : ولكن هداهم بيد الله ، وهو يهدي من يشاء ، فإذا شاء أن يهديهم هداهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية