الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              [ ص: 146 ] المسألة الثانية

              معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن ، والدليل على ذلك أمران : أحدهما : أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب ; إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال : حال الخطاب من جهة نفس الخطاب ، أو المخاطب ، أو المخاطب ، أو الجميع ; إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين ، وبحسب مخاطبين ، وبحسب غير ذلك ; كالاستفهام ، لفظه واحد ، ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة ، وعمدتها مقتضيات الأحوال ، وليس كل حال ينقل ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول ، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة ; فات فهم الكلام جملة ، أو فهم شيء منه ، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط ; فهي من المهمات في فهم الكتاب بلابد ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال ، وينشأ عن هذا الوجه : الوجه الثاني وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات ، ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف ، وذلك مظنة وقوع النزاع .

              [ ص: 147 ] [ ص: 148 ] ويوضح هذا المعنى ما روى أبو عبيد عن إبراهيم التيمي ; قال : خلا عمر ذات يوم ; فجعل يحدث نفسه : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد ، وقبلتها واحدة ؟ فأرسل إلى ابن عباس ; فقال : كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة ؟ فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين ! إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه ، وعلمنا فيم نزل ، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يدرون فيم نزل ، فيكون لهم فيه رأي ، فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا ، فإذا اختلفوا اقتتلوا قال : فزجره عمر وانتهره ; فانصرف ابن عباس ، ونظر عمر فيما قال ; فعرفه فأرسل إليه ; فقال : أعد علي ما قلت فأعاده عليه ; فعرف عمر قوله وأعجبه [ ص: 149 ] وما قاله صحيح في الاعتبار ويتبين بما هو أقرب فقد روى ابن وهب عن بكير ; أنه سأل نافعا : كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية ؟ قال : يراهم شرار خلق الله ، إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين .

              فهذا معنى الرأي الذي نبه ابن عباس عليه ، وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نزل فيه القرآن .

              وروي أن مروان أرسل بوابه إلى ابن عباس وقال : قل له لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا ; لنعذبن أجمعون فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية ؟ إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم ، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ثم قرأ : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب [ ص: 150 ] إلى قوله : ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا [ آل عمران : 187 188 ] فهذا السبب بين أن المقصود من الآية غير ما ظهر لمروان .

              والقنوت يحتمل وجوها من المعنى يحمل عليه قوله : وقوموا لله قانتين [ البقرة : 238 ] فإذا عرف السبب تعين المعنى المراد وروي أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين ; فقدم الجارود على عمر ، فقال : إن قدامة شرب فسكر فقال عمر : من يشهد على ما تقول ؟ قال الجارود : أبو هريرة يشهد على ما أقول وذكر الحديث ; فقال عمر : يا قدامة ! إني جالدك قال : والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني قال عمر : ولم ؟ قال : لأن الله يقول : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح [ المائدة : 93 ] إلخ : فقال عمر : إنك أخطأت التأويل يا قدامة ، إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله .

              وفي رواية : فقال لم تجلدني ؟ بيني وبينك كتاب الله فقال عمر وأي كتاب الله تجد أن لا أجلدك قال : إن الله يقول في كتابه : ليس على الذين آمنوا [ المائدة : 93 ] إلى آخر الآية فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا شهدت مع رسول الله بدرا وأحدا والخندق والمشاهد فقال عمر : ألا تردون عليه قوله ؟ فقال ابن عباس : إن [ ص: 151 ] هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين ، وحجة على الباقين ، فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن تحرم عليهم الخمر وحجة على الباقين لأن الله يقول يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر [ المائدة : 90 ] ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى فإن كان من الذين آمنوا ، وعملوا الصالحات ، ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا ; فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر قال عمر : صدقت الحديث وحكى إسماعيل القاضي ; قال : شرب نفر من أهل الشام الخمر ، وعليهم يزيد بن أبي سفيان ، فقالوا : هي لنا حلال ، وتأولوا هذه الآية ليس على الذين آمنوا [ المائدة : 93 ] الآية قال : فكتب فيهم إلى عمر ، قال : فكتب عمر إليه : أن ابعث بهم إلي قبل أن يفسدوا من قبلك فلما أن قدموا على عمر استشار فيهم الناس ; فقالوا : يا أمير المؤمنين ! نرى أنهم قد كذبوا على الله ، وشرعوا في دينه ما لم يأذن به إلى آخر الحديث .

              ففي الحديثين بيان أن الغفلة عن أسباب التنزيل تؤدي إلى الخروج عن المقصود بالآيات .

              [ ص: 152 ] وجاء رجل إلى ابن مسعود ; فقال : تركت في المسجد رجلا يفسر القرآن برأيه ، يفسر هذه الآية يوم تأتي السماء بدخان مبين [ الدخان : 10 ] قال يأتي الناس يوم القيامة دخان ، فيأخذ بأنفسهم حتى يأخذهم كهيئة الزكام فقال ابن مسعود : من علم علما فليقل به ، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم ; فإن من فقه الرجل أن يقول لما لا علم له به : الله أعلم ، إنما كان هذا لأن قريشا استعصوا على النبي صلى الله عليه وسلم ، دعا عليهم بسنين كسني يوسف ; فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام ، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد ; فأنزل الله فارتقب يوم تأتي السماء بدخان الآية [ الدخان : 10 ] إلى آخر القصة .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية