الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ( أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ( 63 ) وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما ( 64 ) فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ( 65 ) )

                                                                                                                                                                                                                                      ( أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ) من النفاق ، أي : علم أن ما في قلوبهم خلاف ما في ألسنتهم ، ( فأعرض عنهم ) أي : عن عقوبتهم وقيل : فأعرض عن قبول عذرهم وعظهم باللسان ، وقل لهم قولا بليغا ، وقيل : هو التخويف بالله ، وقيل : أن توعدهم بالقتل إن لم يتوبوا ، قال الحسن : القول البليغ أن يقول لهم : إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق قتلتم لأنه يبلغ من نفوسهم كل مبلغ ، وقال الضحاك : ( فأعرض عنهم وعظهم ) في الملإ ( وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا ) في السر والخلاء ، وقال : قيل هذا منسوخ بآية القتال .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله عز وجل ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ) أي : بأمر الله لأن طاعة الرسول وجبت بأمر الله ، قال الزجاج : ليطاع بإذن الله لأن الله قد أذن فيه وأمر به ، وقيل : إلا ليطاع كلام تام كاف ، بإذن الله تعالى أي : بعلم الله وقضائه ، أي : وقوع طاعته يكون بإذن الله ، ( ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم ) بتحاكمهم إلى الطاغوت ( جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما )

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك ) الآية . [ ص: 245 ]

                                                                                                                                                                                                                                      أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف ، أنا محمد بن إسماعيل ، أنا أبو اليمان ، أنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني عروة بن الزبير : أن الزبير رضي الله عنه كان يحدث أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة كانا يسقيان به . كلاهما ، فقال رسول الله للزبير : اسق يا زبير ، ثم أرسل إلى جارك ، فغضب الأنصاري ، ثم قال : يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال للزبير : اسق ثم احبس الماء حتى يبلغ الجدر ، فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للزبير حقه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد به سعة له وللأنصاري ، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم .

                                                                                                                                                                                                                                      قال عروة : قال الزبير : والله ما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ) الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      وروي أن الأنصاري الذي خاصم الزبير كان اسمه حاطب بن أبي بلتعة فلما خرجا مر على المقداد فقال : لمن كان القضاء ، فقال الأنصاري : قضى لابن عمته ولوى شدقه ففطن له يهودي كان مع المقداد ، فقال : قاتل الله هؤلاء يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم ، وايم الله لقد أذنبنا ذنبا مرة في حياة موسى عليه السلام فدعا موسى إلى التوبة منه ، فقال : اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنا ، فقال ثابت بن قيس بن شماس : أما والله إن الله ليعلم مني الصدق ولو أمرني محمد أن أقتل نفسي لفعلت ، فأنزل الله في شأن حاطب بن أبي بلتعة : ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك ) .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مجاهد والشعبي : نزلت في بشر المنافق واليهودي اللذين اختصما إلى عمر رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : ( فلا ) أي : ليس الأمر كما يزعمون أنهم مؤمنون ثم لا يرضون بحكمك ، ثم استأنف [ ص: 246 ] القسم ( وربك لا يؤمنون ) ويجوز أن يكون ( لا ) في قوله ( فلا ) صلة ، كما في قوله ( فلا أقسم ) حتى يحكموك : أي يجعلوك حكما ، ( فيما شجر بينهم ) أي : اختلف واختلط من أمورهم والتبس عليهم حكمه ، ومنه الشجر لالتفاف أغصانه بعضها ببعض ، ( ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ) قال مجاهد : شكا ، وقال غيره : ضيقا ، ( مما قضيت ) قال الضحاك : إثما ، أي : يأثمون بإنكارهم ما قضيت ، ( ويسلموا تسليما ) أي : وينقادوا لأمرك انقيادا .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية