الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 264 ] المناسبة في الوضع ]

                                                      الثامن : في عدم المناسبة في الوضع : ذهب الجمهور إلى أن دلالة اللفظ على المعنى ليست لمناسبة بينهما ، بل لأنه جعل علامة عليه ، ومعرفا به بطريق الوضع . وذهب عباد بن سليمان الصيمري وغيره إلى أن دلالة اللفظ على المعنى لمناسبة طبيعية بينهما . وعبر ابن الجويني عن هذا الاختلاف بأن اللغات الموضوعة لمعانيها هل هو لأمر معقول أو لا ؟ والأول : قول عباد ، ثم نقل صاحب المحصول " عنه أن اللفظ يفيد المعنى بذاته من غير واضع لما بينهما من المناسبة الطبيعية .

                                                      قال الأصفهاني : وهو الصحيح عنه ، ونقل صاحب الأحكام " عنه أن المناسبة حاملة للواضع على أن يضع .

                                                      وفصل الزجاجي بين أسماء الألقاب وغيرها ، فقال : واضع اللغة أجرى اللفظ على مسمياتها لمعان تتضمنها أسماء الألقاب ، فإن قولنا " زيد " وإن كان مأخوذا من الزيادة ، فليس بجار على مسماها لهذا المعنى ، وليس فيه إلا تعريف شخص من شخص حكاه عنه الواحدي في البسيط " [ ص: 265 ] عند قوله تعالى : { وعلم آدم الأسماء كلها } وهذا المذهب فاسد ، لأن الألفاظ لو لم تدل بالوضع ، وإنما دلت بذواتها لكانت كالأدلة العقلية ، فلا تختلف بالأعصار والأمم ، والاختلاف موجود ، وأيضا لو كان كما قال لاشترك فيه العرب والعجم لاشتراكهما في العقل ، وأيضا فإنا نقطع بصحة وضع اللفظ للشيء ونقيضه وضده ، ونقطع بوقوع اللفظ على الشيء ونقيضه ، كالقرء الواقع على الحيض والطهر ، والجور الواقع على الأبيض والأسود ، فلو كانت الدلالة لمناسبة لزم أن يناسب اللفظ الواحد النقيضين والضدين بالطبع ، وهو محال ، فلا يصح وضع اللفظ الواحد لهما على هذا التقدير ، واللازم منتف ، لأنا نقطع بصحة وضعه لهما بل بوقوعه .

                                                      قال السكاكي : هذا المذهب متأول على أن للحروف خواص تناسب معناها من شدة وضعف وغيره كالجهر والهمس والمتوسط بينهما ، إلى غير ذلك ، وتلك الخواص تستدعي على أن العالم بها إذا أخذ في تعيين شيء منها لمعنى لا يهمل التناسب بينهما قضاء لحق الكلم كما ترى في الفصم بالفاء الذي هو حرف رخو لكسر الشيء من غير أن يبين ، والقصم بالقاف الذي هو حرف شديد لكسر الشيء حتى يبين ، وفي الزفير لصوت الحمار ، والزئير بالهمز الذي هو شديد لصوت الأسد ، وأن المركبات " كالفعلان " و " الفعلى " - بالتحريك - كالنزوان والحيدى ، و " فعل " - بضم [ ص: 266 ] العين كطرف وشرف وغير ذلك خواص أيضا ، فيلزم فيها ما يلزم في الحروف من اختصاص بعض المركبات ببعض المعاني دون بعض كاختصاص " الفعلان " و " الفعلى بالمتحركات ، واختصاص " فعل " بأفعال الطبائع ، وفي أن للحروف والمركبات خواص نوع تأثير لا نفس الكلمة في اختصاصها بالمعاني . هذا حاصل تأويله .

                                                      والحق : أن هذا القائل إن أراد أن هذه الألفاظ علة مقتضية لذاتها هذه المعاني فخارق للإجماع ، وإن أراد أن بين وضع الألفاظ ومعانيها تناسبا من وجه ما لأجلها حتى جعل هذه الحروف دالة على المعنى دون غيره كما يقول المعللون للأحكام الشرعية : إن بين عللها وأحكامها مناسبات وإن لم تكن موجبة لها ، وهو الظاهر من كلامه ، فهو مذهب جماعة من أرباب علم الحروف ، إذ زعموا أن للحروف طبائع في طبقات من حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة تناسب أن يوضع لكل مسمى ما يناسبه من طبيعة تلك الحروف ، ليطابق لفظه ومعناه ، وكذلك يزعم المنجمون أن حروف اسم الشخص مع اسم أمه واسم أبيه تدل على أحواله مدة حياته لما بينهما من المناسبة ، فإن عنى عباد هذا فالبحث معه ومع هؤلاء والرد عليه بما يرد مذهب الطبائعيين في علم الكلام ، ولا ينفع ما ردوا به من وضع اللفظ للضدين ، لأنها مسألة خلاف كما سيأتي .

                                                      وقال [ ابن الحوبي ] : هل للحروف في الكلمات خواص أو وضعت الكلمات لمعانيها اتفاقا ؟ فوضع الباب لمعنى والناب لآخر ، وكان من الجائز وضع الباب لمعنى الناب وبالعكس .

                                                      فنقول : الظاهر أنه لا تعلل ولا يقال : لم قيل لهذا المعنى باب ولذلك جدار ؟ [ ص: 267 ]

                                                      قال : ولا شك أن من الحروف ما هو مستحسن ، ومنه ما ليس كذلك ، فالمستحسن إذا ضم إليه مستقبح لم يكن مناسبا ، غير أن المناسبة من كل لفظ ومعناه اشتغال بما لا يمكن وتفويت للزمان ، فإن اتفق في بعضها أن وقع في الذهن شيء من غير تفكر قيل به ، كما يقول في الشدة والرخاء كيف جعل في الشدة الحرف الشديد وهو الدال مضاعفا ؟ والرخاء كيف جيء فيه بالحروف الرخوة ؟ قال : وهذا ينبني على مسألة حكمية ، وهي أن الفاعل المختار هل يشترط في اختياره أحد الرافعين بحاجته وجود مرجح ؟ والأظهر : أنه لا يشترط ، فالجائع يكون أكله لعلة الشبع ، أما اختياره أحد الرغيفين لشبعه بدلا عن الآخر لا يكون لعلة ، فالوضع لحكمة ، وإنما وضع الباب بخصوصه لمعناه فلا سبب له .

                                                      قلت : ويجوز أن يكون من فوائد الخلاف ما إذا تعارض مدلول اللفظ والعرف ، وفيه وجهان ، أصحهما عند إمام الحرمين والغزالي : اعتبار العرف ، ووجهه الإمام بأن العبارات لا تغني لأعيانها ، وهي في الحقيقة أمارات منصوبة على المعاني المطلوبة .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية