الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب لما انتهى تهديد المشركين وموعظة الخلائق أجمعين ثني عنان الخطاب إلى جانب المؤمنين فيما يختص بهم من البشارة مقابلة لنذارة المشركين .

[ ص: 364 ] والجملة معطوفة على جملة قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم الآية .

والتعبير عن المؤمنين بـ والذين اجتنبوا الطاغوت لما في الصلة من الإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو لهم البشرى ، وهذا مقابل قوله ذلك يخوف الله به عباده .

والطاغوت : مصدر أو اسم مصدر " طغا " على وزن " فعلوت " بتحريك العين بوزن رحموت وملكوت . وفي أصله لغتان الواو والياء لقولهم : طغا طغوا مثل علو ، وقولهم : طغوان وطغيان . وظاهر القاموس أنه واوي ، وإذ كانت لامه حرف علة ووقعت بعدها واو زنة " فعلوت " استثقلت الضمة عليها فقدموها على العين ليتأتى قلبها ألفا حيث تحركت وانفتح ما قبلها فصار " طاغوت " بوزن " فلعوت " بتحريك اللام وتاؤه زائدة للمبالغة في المصدر .

ومن العلماء من جعل الطاغوت اسما أعجميا على وزن فاعول مثل جالوت وطالوت وهارون ، وذكره في الإتقان فيما وقع في القرآن من المعرب وقال : إنه الكاهن بالحبشية . واستدركه ابن حجر فيما زاده على أبيات ابن السبكي في الألفاظ المعربة الواقعة في القرآن ، وقد تقدم ذكره بأخصر مما هنا عند قوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت في سورة النساء .

وأطلق الطاغوت في القرآن والسنة على القوي في الكفر أو الظلم ، فأطلق على الصنم ، وعلى جماعة الأصنام ، وعلى رئيس أهل الكفر مثل كعب بن الأشرف . وأما جمعه على " طواغيت " فذلك على تغليب الإسمية علما بالغلبة إذ جعل الطاغوت لواحد الأصنام وهو قليل ، وهو هنا مراد به جماعة الأصنام وقد أجري عليه ضمير المؤنث في قوله " أن يعبدوها " باعتبار أنه جمع لغير العاقل ، وأجري عليه ضمير جماعة الذكور في قوله تعالى والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات في سورة البقرة باعتبار أنه وقع خبرا عن الأولياء وهو جمع مذكر ، وباعتبار تنزيلها منزلة العقلاء في زعم عبادها .

و " أن يعبدوها " بدل من الطاغوت بدل اشتمال .

[ ص: 365 ] والإنابة : التوبة وتقدمت في قوله إن إبراهيم لحليم أواه منيب في سورة هود .

والمراد بها هنا التوبة من كل ذنب ومعصية وأعلاها التوبة من الشرك الذي كانوا عليه في الجاهلية .

والبشرى : البشارة ، وهي الإخبار بحصول نفع ، وتقدمت في قوله تعالى لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة في سورة يونس . والمراد بها هنا : البشرى بالجنة .

وفي تقديم المسند من قوله " لهم البشرى " إفادة القصر وهو مثل القصر في أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب .

وفرع على قوله " لهم البشرى " قوله فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وهم الذين اجتنبوا الطاغوت ، فعدل عن الإتيان بضميرهم بأن يقال : فبشرهم ، إلى الإظهار باسم العباد مضافا إلى ضمير الله تعالى ، وبالصلة لزيادة مدحهم بصفتين أخريين وهما : صفة العبودية لله ، أي : عبودية التقرب ، وصفة استماع القول واتباع أحسنه .

وقرأ العشرة ما عدا السوسي راوي أبي عمرو كلمة " عباد " بكسر الدال دون ياء وهو تخفيف واجتزاء بوجود الكسرة على الدال . وقرأها السوسي بياء بعد الدال مفتوحة في الوصل وساكنة في الوقف ، ونقل عنه حذف الياء في حالة الوقف وهما وجهان صحيحان في العربية كما في التسهيل ، لكن اتفقت المصاحف كتابة " عباد " هنا بدون ياء بعد الدال وذلك يوهن قراءةالسوسي إلا أن يتأول لها بأنها من قبيل الأداء .

والتعريف في القول تعريف الجنس ، أي : يستمعون الأقوال مما يدعو إلى الهدى مثل القرآن وإرشاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويستمعون الأقوال التي يريد أهلها صرفهم عن الإيمان من ترهات أيمة الكفر فإذا استمعوا ذلك اتبعوا أحسنه وهو ما يدعو إلى الحق .

والمراد : يتبعون القول الحسن من تلك الأقوال ، فاسم التفضيل هنا ليس [ ص: 366 ] مستعملا في تفاوت الموصوف به في الفضل على غيره فهو للدلالة على قوة الوصف ، مثل قوله تعالى قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه . أثنى الله عليهم بأنهم أهل نقد يميزون بين الهدى والضلال والحكمة والأوهام نظار في الأدلة الحقيقية نقاد للأدلة السفسطائية .

وفي الموصول إيماء إلى أن اتباع أحسن القول سبب في حصول هداية الله إياهم .

وجملة أولئك الذين هداهم الله مستأنفة لاسترعاء الذهن لتلقي هذا الخبر . وأكد هذا الاسترعاء بجعل المسند إليه اسم إشارة ليتميز المشار إليهم ، أكمل تميزه مع التنبيه على أنهم كانوا أحرياء بهذه العناية الربانية لأجل ما اتصفوا به من الصفات المذكورة قبل اسم الإشارة وهي صفات اجتنابهم عبادة الأصنام مع الإنابة إلى الله واستماعهم كلام الله واتباعهم إياه نابذين ما يلقي به المشركون من أقوال التضليل .

والإتيان باسم الإشارة عقب ذكر أوصاف أو أخبار طريقة عربية في الاهتمام بالحكم والمحكوم عليه فتارة يشار إلى المحكوم عليه كما هنا وتارة يشار إلى الخبر كما في قوله هذا وإن للطاغين لشر مآب في سورة ص .

وقد أفاد تعريف الجزأين في قوله أولئك الذين هداهم الله قصر الهداية عليهم وهو قصر صفة على موصوف وهو قصر إضافي قصر تعيين ، أي : دون الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم .

ومعنى " هداهم الله " أنهم نالوا هذه الفضيلة بأن خلق الله نفوسهم قابلة للهدى الذي يخاطبهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فتهيأت نفوسهم لذلك وأقبلوا على سماع الهدى بشراشرهم وسعوا إلى ما يبلغهم إلى رضاه وطلبوا النجاة من غضبه .

وليس المراد بهدي الله إياهم أنه وجه إليهم أوامر إرشاده لأن ذلك حاصل للذين خوطبوا بالقرآن فأعرضوا عنه ولم يتطلبوا البحث عما يرضي الله تعالى فأصروا على الكفر .

[ ص: 367 ] وأشارت جملة وأولئك هم أولو الألباب إلى معنى تهيئتهم للاهتداء بما فطرهم الله عليه من عقول كاملة ، وأصل الخلقة ميالة لفهم الحقائق غير مكترثة بالمألوف ولا مراعاة الباطل ، على تفاوت تلك العقول في مدى سرعة البلوغ للاهتداء ، فمنهم من آمن عند أول دعاء للنبيء - صلى الله عليه وسلم - مثل خديجة وأبي بكر الصديق وعلي بن أبي طالب ، ومنهم من آمن بعيد ذلك أو بعده ، فأشير إلى رسوخ هذه الأحوال في عقولهم بذكر ضمير الفصل مع كلمة أولوا الدالة على أن الموصوف بها ممسك بما أضيفت إليه كلمة " أولوا " ، وبما دل عليه تعريف " الألباب " من معنى الكمال ، فليس التعريف فيه تعريف الجنس لأن جنس الألباب ثابت لجميع العقلاء . وأشار إعادة اسم الإشارة إلى تميزهم بهذه الخصلة من بين نظرائهم وأهل عصرهم .

وفيه تنبيه على أن حصول الهداية لا بد له من فاعل وقابل ، فأشير إلى الفاعل بقوله تعالى " هداهم الله " ، وإلى المقابل بقوله هم أولوا الألباب وفي هذه الجملة من القصر ما في قوله أولئك الذين هداهم الله .

وقد دل ثناء الله على عباده المؤمنين الكمل بأنهم أحرزوا صفة اتباع أحسن القول الذي يسمعونه ، على شرف النظر والاستدلال للتفرقة بين الحق والباطل وللتفرقة بين الصواب والخطأ ولغلق المجال في وجه الشبهة ونفي تلبس السفسطة .

وهذا منه ما هو واجب على الأعيان وهو ما يكتسب به الاعتقاد الصحيح على قدر قريحة الناظر ، ومنه واجب على الكفاية وهو فضيلة وكمال في الأعيان وهو النظر والاستدلال في شرائع الإسلام وإدراك دلائل ذلك والفقه في ذلك والفهم فيه والتهمم برعاية مقاصده في شرائع العبادات والمعاملات ، وآداب المعاشرة لإقامة نظام الجامعة الإسلامية على أصدق وجه وأكمله ، وإلجام الخائضين في ذلك بعماية وغرور ، وإلقام المتنطعين والملحدين .

ومما يتبع ذلك انتفاء أحسن الأدلة وأبلغ الأقوال الموصلة إلى هذا المقصود بدون اختلال ولا اعتلال بتهذيب العلوم ومؤلفاتها ، فقد قيل : خذوا من كل علم أحسنه أخذا من قوله تعالى هنا الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه .

[ ص: 368 ] وعن ابن زيد نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل ، وأبي ذر الغفاري ، وسلمان الفارسي ، اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها في جاهليتهم واتبعوا أحسن ما بلغهم من القول .

وعن ابن عباس نزل قوله فبشر عبادي الذين يستمعون القول الآية في عثمان ، وعبد الرحمن بن عوف ، وطلحة ، والزبير ، وسعيد بن زيد ، وسعد بن أبي وقاص ، جاءوا إلى أبي بكر الصديق حين أسلم فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية