الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 155 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا ( 12 ) وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا ( 13 ) )

يقول تعالى ذكره : فولد لزكريا يحيى ، فلما ولد ، قال الله له : يا يحيى ، خذ هذا الكتاب بقوة ، يعني كتاب الله الذي أنزله على موسى ، وهو التوراة بقوة ، يقول : بجد .

كما حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله ( خذ الكتاب بقوة ) قال : بجد .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( خذ الكتاب بقوة ) قال : بجد .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

وقال ابن زيد في ذلك ما حدثني به يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة ) قال : القوة : أن يعمل ما أمره الله به ، ويجانب فيه ما نهاه الله عنه .

قال أبو جعفر : وقد بينت معنى ذلك بشواهده فيما مضى من كتابنا هذا ، في سورة آل عمران ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .

وقوله ( وآتيناه الحكم صبيا ) يقول تعالى ذكره : وأعطيناه الفهم لكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه أسنان الرجال .

وقد حدثنا أحمد بن منيع ، قال : ثنا عبد الله بن المبارك ، قال : أخبرني معمر ، ولم يذكره عن أحد في هذه الآية ( وآتيناه الحكم صبيا ) قال : بلغني أن الصبيان قالوا ليحيى : اذهب بنا نلعب ، فقال : ما للعب خلقت ، فأنزل الله ( وآتيناه الحكم صبيا ) .

وقوله ( وحنانا من لدنا ) يقول تعالى ذكره : ورحمة منا ومحبة له آتيناه الحكم صبيا . [ ص: 156 ]

وقد اختلف أهل التأويل في معنى الحنان ، فقال بعضهم : معناه : الرحمة ، ووجهوا الكلام إلى نحو المعنى الذي وجهناه إليه .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا علي ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله ( وحنانا من لدنا ) يقول : ورحمة من عندنا .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن سماك ، عن عكرمة ، في هذه الآية ( وحنانا من لدنا ) قال : رحمة .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله ( وحنانا من لدنا ) قال : رحمة من عندنا .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، قوله ( وحنانا من لدنا ) قال : رحمة من عندنا لا يملك عطاءها غيرنا .

حدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله ( وحنانا من لدنا ) يقول : رحمة من عندنا ، لا يقدر على أن يعطيها أحد غيرنا .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ورحمة من عندنا لزكريا ، آتيناه الحكم صبيا ، وفعلنا به الذي فعلنا .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( وحنانا من لدنا ) يقول : رحمة من عندنا .

وقال آخرون : معنى ذلك : وتعطفا من عندنا عليه ، فعلنا ذلك .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله ( وحنانا من لدنا ) قال : تعطفا من ربه عليه .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله . [ ص: 157 ]

وقال آخرون : بل معنى الحنان : المحبة . ووجهوا معنى الكلام إلى : ومحبة من عندنا فعلنا ذلك .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن يحيى بن سعيد ، عن عكرمة ( وحنانا من لدنا ) قال : محبة عليه .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ( وحنانا ) قال : أما الحنان فالمحبة .

وقال آخرون معناه تعظيما منا له .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا أبو تميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن عطاء بن أبي رباح ( وحنانا من لدنا ) قال : تعظيما من لدنا . وقد ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لا أدري ما الحنان .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : والله ما أدري ما حنانا .

وللعرب في حنانك لغتان : حنانك يا ربنا ، وحنانيك; كما قال طرفة بن العبد في حنانيك :


أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض



وقال امرؤ القيس في اللغة الأخرى : [ ص: 158 ]


ويمنحها بنو شمجى بن جرم     معيزهم حنانك ذا الحنان



وقد اختلف أهل العربية في "حنانيك" فقال بعضهم : هو تثنية "حنان" . وقال آخرون : بل هي لغة ليست بتثنية; قالوا : وذلك كقولهم : حواليك; وكما قال الشاعر :


ضربا هذا ذيك وطعنا وخضا



وقد سوى بين جميع ذلك الذين قالوا حنانيك تثنية ، في أن كل ذلك تثنية . وأصل ذلك أعني الحنان ، من قول القائل : حن فلان إلى كذا وذلك إذا ارتاح إليه واشتاق ، ثم يقال : تحنن فلان على فلان ، إذا وصف بالتعطف عليه والرقة به ، والرحمة له ، كما قال الشاعر :


تحنن علي هداك المليك     فإن لكل مقام مقالا



بمعنى : تعطف علي . فالحنان : مصدر من قول القائل : حن فلان على فلان ، يقال منه : حننت عليه ، فأنا أحن عليه حنينا وحنانا ، ومن ذلك قيل لزوجة الرجل : حنته ، لتحننه عليها وتعطفه ، كما قال الراجز : [ ص: 159 ]


وليلة ذات دجى سريت     ولم تضرني حنة وبيت



وقوله : ( وزكاة ) يقول تعالى ذكره : وآتينا يحيى الحكم صبيا ، وزكاة : وهو الطهارة من الذنوب ، واستعمال بدنه في طاعة ربه ، فالزكاة عطف على الحكم من قوله ( وآتيناه الحكم ) .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ( وزكاة ) قال : الزكاة : العمل الصالح .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله ( وزكاة ) قال : الزكاة : العمل الصالح الزكي .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : في قوله ( وزكاة ) يعني العمل الصالح الزاكي .

وقوله ( وكان تقيا ) يقول تعالى ذكره : وكان لله خائفا مؤديا فرائضه ، مجتنبا محارمه مسارعا في طاعته .

كما : حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ( وزكاة وكان تقيا ) قال : طهر فلم يعمل بذنب .

حدثني يونس ، قال : خبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله ( وزكاة وكان تقيا ) قال : أما الزكاة والتقوى فقد عرفهما الناس .

التالي السابق


الخدمات العلمية