الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                      صفحة جزء
                                                                      باب الوضوء من لحوم الإبل

                                                                      184 حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عبد الله بن عبد الله الرازي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل فقال توضئوا منها وسئل عن لحوم الغنم فقال لا توضئوا منها وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل فقال لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال صلوا فيها فإنها بركة

                                                                      التالي السابق


                                                                      باب الوضوء من لحوم الإبل

                                                                      أي من أكلها .

                                                                      [ ص: 245 ] ( عن الوضوء من ) : أكل ( لحوم الإبل فقال توضئوا منها ) : والمراد به الوضوء الشرعي والحقائق الشرعية ثابتة مقدمة على غيرها . والحديث يدل على أن الأكل من لحوم الإبل من جملة نواقض الوضوء ، وذهب إليه الإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ويحيى بن معين وأبو بكر بن المنذر وابن خزيمة ، واختاره الحافظ أبو بكر البيهقي ، وحكي عن أصحاب الحديث مطلقا ، وحكي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، واحتج هؤلاء بحديث جابر بن سمرة والبراء قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه : صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا حديثان حديث جابر وحديث البراء ، وهذا المذهب أقوى دليلا وإن كان الجمهور على خلافه . قاله النووي . وقال الدميري وإنه المختار المنصور من جهة الدليل ، وذهب الأكثرون إلى أنه لا ينقض الوضوء . وممن ذهب إليه الخلفاء الأربعة الراشدون وابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وأبو الدرداء وأبو طلحة وعامر بن ربيعة وأبو أمامة وجماهير التابعين ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحابهم ، وأجاب هؤلاء القائلون بعدم النقض بحديث جابر قال : كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك [ ص: 246 ] الوضوء مما مسته النار أخرجه أبو داود والنسائي قالوا ولحم الإبل داخل فيه أيضا لأنه من أفراد ما مسته النار بدليل أنه لا يؤكل نيئا بل يؤكل مطبوخا فلما نسخ الوضوء مما مسته النار نسخ من أكل لحوم الإبل أيضا ورده النووي بأن حديث ترك الوضوء مما مسته النار عام وحديث الوضوء من لحوم الإبل خاص والخاص مقدم على العام . وقال ابن القيم : وأما من يجعل كون لحم الإبل هو الموجب للوضوء سواء مسته النار أو لم تمسه فيوجب الوضوء من نيئه ومطبوخه وقديده - فكيف يحتج عليه بهذا الحديث حتى لو كان لحم الإبل فردا من أفراده فإنما يكون دلالته عليه بطريق العموم فكيف يقدم على الخاص .

                                                                      ( لا توضئوا منها ) : لأن لحومها ليست ناقضة للوضوء ، ومن حمله على الوضوء اللغوي يعني المضمضة وغسل اليدين فدعواه محتاجة إلى بينة واضحة ( في مبارك الإبل ) : على وزن مساجد جمع مبرك كجعفر وهو موضع بروك الإبل ، يقال برك البعير بروكا وقع على بركه وهو صدره . كذا في المصباح . قال الجوهري : برك البعير يبرك بروكا أي استناخ ( فإنها من الشياطين ) : أي الإبل تعمل عمل الشياطين والأجنة لأن الإبل كثيرة الشر فتشوش قلب المصلي وربما نفرت وهو في الصلاة فتؤدي إلى قطعها أو أذى يحصل له منها ، فبهذه الوجوه وصفت بأعمال الشياطين والجن . قال ولي الدين العراقي : يحتمل أن يكون قوله فإنها من الشياطين على حقيقته وأنها أنفسها شياطين ، وقد قال أهل الكوفة إن الشيطان كل عات متمرد من الإنس والجن والدواب . انتهى . والله أعلم بمراد رسوله صلى الله عليه وسلم ( في مرابض الغنم ) : جمع مربض بفتح الميم وكسر الباء الموحدة وآخرها ضاد معجمة . قال الجوهري المرابض كالمعاطن للإبل قال وربوض الغنم والبقر والفرس مثل بروك الإبل وجثوم الطير ( فإنها بركة ) : زاد الشافعي فإنها سكينة وبركة ، والمعنى أن [ ص: 247 ] الغنم ليس فيها تمرد ولا شرود بل هي ضعيفة وفيها سكينة فلا تؤذي المصلي ولا تقطع صلاته ، فهي ذو [ ذات ] بركة فصلوا في مرابطها . والحديث يدل على عدم جواز الصلاة في مبارك الإبل وعلى جوازها في مرابض الغنم . قال أحمد بن حنبل لا تصح الصلاة في مبارك الإبل بحال ، قال ومن صلى فيها أعاد أبدا . وسئل مالك عمن لا يجد إلا عطن الإبل قال لا يصلي ، قيل فإن بسط عليه ثوبا قال لا . وقال ابن حزم : لا تحل في عطن الإبل . وذهب أكثر العلماء إلى حمل النهي على الكراهة مع عدم النجاسة وعلى التحريم مع وجودها . وهذا إنما يتم على القول بأن علة النهي هي النجاسة وذلك متوقف على نجاسة أبوال الإبل وأزبالها ، وستعرف بعد هذا تحقيق ذلك على وجه الصواب . ولو سلمنا النجاسة فيه لم يصح جعلها علة لأن العلة لو كانت النجاسة لما افترق الحال بين أعطانها وبين مرابض الغنم إذ لا قائل بالفرق بين أرواث كل من الجنسين وأبوالها كما قال العراقي ، بل حكمة النهي ما فيها من النفور والتمرد والشراد ، وبهذا علل النهي أصحاب الشافعي وأصحاب مالك وهذا هو الحق وقد تمسك بحديث الباب أي حديث البراء من قال بطهارة أبوال الغنم وأبعارها قالوا لأن مرابض الغنم لا تخلو من ذلك فدل على أنهم كانوا يباشرونها في صلاتهم فلا تكون نجسة ، ويؤيده ما أخرجه البخاري والترمذي عن أنس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل أن يبني المسجد في مرابض الغنم وبوب البخاري في صحيحه لذلك بابا وقال باب أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها وصلى أبو موسى في دار البريد والسرقين والبرية في جنبه فقال هاهنا وثم سواء

                                                                      قلت : السرقين هو الزبل ، والبرية الصحراء منسوبة إلى البر ، ودار البريد موضع بالكوفة كانت الرسل تنزل فيه إذا [ ص: 248 ] حضرت من الخلفاء إلى الأمراء ، وكان أبو موسى أميرا على الكوفة في زمن عمر رضي الله عنه . وقوله هاهنا وثم سواء يريد أنهما متساويان في صحة الصلاة . وحديث أنس في قصة أناس من عرينة الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلقاح وأن يشربوا من أبوالها وألبانها دليل ظاهر على طهارة أبوال الإبل أيضا . قال الحافظ في فتح الباري : وأما شربهم البول فاحتج به من قال بطهارته ، أما من الإبل فبهذا الحديث وأما من مأكول اللحم فبالقياس عليه انتهى . وذهب إلى طهارة بول ما يؤكل لحمه وروثه الإمام مالك وأحمد بن حنبل وعطاء والثوري وابن أبي ليلى وإبراهيم النخعي وغيرهم ، وهذا هو المذهب المنصور والقوي من حيث الدليل وسمعت شيخنا العلامة المحدث الفقيه سلطان العلماء السيد محمد نذير حسين الدهلوي أدام الله بركاته علينا يقول به والله أعلم .

                                                                      وأما حديث عبد الله بن مسعود يقول أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغابة فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجد فأخذت روثة فأتيته بها فأخذ الحجرين [ ص: 249 ] وألقى الروثة وقال هذا ركس فلا تدل على نجاسة عموم الروثة لأنه صرح ابن خزيمة في صحيحه في رواية له في هذا الحديث أنها كانت روثة حمار . على أن نقل التيمي أن الروث مختص من الخيل والبغال والحمير وإنا لا نقول بطهارة روث البغال والحمر الأهلية . وأما النهي عن الاستنجاء بالروثة مطلقا فقد جاءت علة النهي عنه كونها من طعام الجن لا من جهة أنها نجسة ، وذهب الإمام الشافعي والجمهور " أي جمهور أصحابه " بنجاسة الأبوال والأرواث كلها من مأكول اللحم وغيره . وقال داود الظاهري : إن الأبوال كلها سواء كانت أبوال مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم والأرواث كلها كذلك طاهرة إلا بول الآدمي وغائطه ، وهذان المذهبان ليس عليهما برهان يقنع به القلب .




                                                                      الخدمات العلمية