الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وليس من شرط الرضا ألا يحس بالألم والمكاره

وليس من شرط الرضا ألا يحس بالألم والمكاره . بل ألا يعترض على الحكم ولا يتسخطه . ولهذا أشكل على بعض الناس الرضا بالمكروه ، وطعنوا فيه . وقالوا : هذا ممتنع على الطبيعة . وإنما هو الصبر ، وإلا فكيف يجتمع الرضا والكراهة ؟ وهما ضدان .

والصواب : أنه لا تناقض بينهما ، وأن وجود التألم وكراهة النفس له لا ينافي الرضا ، كرضا المريض بشرب الدواء الكريه ، ورضا الصائم في اليوم الشديد الحر بما يناله من ألم الجوع والظمأ ، ورضا المجاهد بما يحصل له في سبيل الله من ألم الجراح ، وغيرها .

وطريق الرضا طريق مختصرة ، قريبة جدا ، موصلة إلى أجل غاية . ولكن فيها مشقة . ومع هذا فليست مشقتها بأصعب من مشقة طريق المجاهدة . ولا فيها من العقبات والمفاوز ما فيها . وإنما عقبتها همة عالية . ونفس زكية ، وتوطين النفس على كل ما يرد عليها من الله .

ويسهل ذلك على العبد : علمه بضعفه وعجزه ورحمته به ، وشفقته عليه ، وبره به ، فإذا شهد هذا وهذا ، ولم يطرح نفسه بين يديه ، ويرضى به وعنه ، وتنجذب دواعي حبه ورضاه كلها إليه : فنفسه نفس مطرودة عن الله ، بعيدة عنه . ليست مؤهلة لقربه وموالاته ، أو نفس ممتحنة مبتلاة بأصناف البلايا والمحن .

[ ص: 174 ] فطريق الرضا والمحبة : تسير العبد وهو مستلق على فراشه . فيصبح أمام الركب بمراحل .

وثمرة الرضا : الفرح والسرور بالرب تبارك وتعالى .

ورأيت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - في المنام . وكأني ذكرت له شيئا من أعمال القلب . وأخذت في تعظيمه ومنفعته - لا أذكره الآن - فقال : أما أنا فطريقتي : الفرح بالله ، والسرور به ، أو نحو هذا من العبارة .

وهكذا كانت حاله في الحياة . يبدو ذلك على ظاهره . وينادي به عليه حاله . لكن قد قال الواسطي : استعمل الرضا جهدك . ولا تدع الرضا يستعملك ، فتكون محجوبا بلذته ورؤيته عن حقيقة ما تطالع .

وهذا الذي أشار إليه الواسطي هو عقبة عظيمة عند القوم ، ومقطع لهم . فإن مساكنة الأحوال ، والسكون إليها ، والوقوف عندها استلذاذا ومحبة : حجاب بينهم وبين ربهم بحظوظهم عن مطالعة حقوق محبوبهم ومعبودهم . وهي عقبة لا يحوزها إلا أولو العزائم .

وكان الواسطي كثير التحذير من هذه العقبة . شديد التنبيه عليها .

ومن كلامه : إياكم واستحلاء الطاعات . فإنها سموم قاتلة .

فهذا معنى قوله : استعمل الرضا جهدك . ولا تدع الرضا يستعملك أي لا يكون عملك لأجل حصول حلاوة الرضا ، بحيث تكون هي الباعثة لك عليه . بل اجعله آلة لك وسببا موصلا إلى قصدك ومطلوبك . فتكون مستعملا له ، لا أنه مستعمل لك .

وهذا لا يختص بالرضا ، بل هو عام في جميع الأحوال والمقامات القلبية التي يسكن إليها القلب ، حتى إنه أيضا لا يكون عاملا على المحبة لأجل المحبة ، وما فيها من اللذة والسرور والنعيم به . بل يستعمل المحبة في مرضاة المحبوب ، لا يقف عندها . فهذا من علل المحبة .

[ ص: 175 ] وقال ذو النون : ثلاثة من أعلام الرضا : ترك الاختيار قبل القضاء ، وفقدان المرارة بعد القضاء . وهيجان الحب في حشو البلاء .

وقيل للحسين بن علي رضي الله عنهما : إن أبا ذر رضي الله عنه يقول : الفقر أحب إلي من الغنى ، والسقم أحب إلي من الصحة . فقال : رحم الله أبا ذر . أما أنا ، فأقول : من اتكل على حسن اختيار الله له لم يتمن غير ما اختار الله له .

وقال الفضيل بن عياض ل بشر الحافي : الرضا أفضل من الزهد في الدنيا . لأن الراضي لا يتمنى فوق منزلته .

وسئل أبو عثمان عن قول النبي صلى الله عليه وسلم أسألك الرضا بعد القضاء فقال : لأن الرضا قبل القضا عزم على الرضا . والرضا بعد القضا هو الرضا .

وقيل : الرضا ارتفاع الجزع في أي حكم كان .

وقيل : رفع الاختيار . وقيل : استقبال الأحكام بالفرح .

وقيل : سكون القلب تحت مجاري الأحكام .

وقيل : نظر القلب إلى قديم اختيار الله للعبد . وهو ترك السخط .

وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى رضي الله عنهما : أما بعد ، فإن الخير كله في الرضا ، فإن استطعت أن ترضى وإلا فاصبر .

وقال أبو علي الدقاق : الإنسان خزف . وليس للخزف من الخطر ما يعارض فيه حكم الحق تعالى .

وقال أبو عثمان الحيري : منذ أربعين سنة ما أقامني الله في حال فكرهته ، وما نقلني إلى غيره فسخطته .

والرضا ثلاثة أقسام : رضا العوام بما قسمه الله وأعطاه . ورضا الخواص بما قدره وقضاه . ورضا خواص الخواص به بدلا من كل ما سواه .

التالي السابق


الخدمات العلمية