الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله : ( غير المغضوب عليهم ) .

قال أبو جعفر : والقرأة مجمعة على قراءة " غير " بجر الراء منها . والخفض يأتيها من وجهين :

أحدهما : أن يكون "غير " صفة ل "الذين " ونعتا لهم فتخفضها . إذ كان " الذين " خفضا ، وهي لهم نعت وصفة . وإنما جاز أن يكون " غير " نعتا ل " الذين " ، و " الذين " معرفة و "غير " نكرة ، لأن " الذين " بصلتها ليست بالمعرفة المؤقتة كالأسماء [ ص: 181 ] التي هي أمارات بين الناس ، مثل : زيد وعمرو ، وما أشبه ذلك ; وإنما هي كالنكرات المجهولات ، مثل : الرجل والبعير ، وما أشبه ذلك . فلما كان " الذين " كذلك صفتها ، وكانت "غير " مضافة إلى مجهول من الأسماء ، نظير " الذين " ، في أنه معرفة غير موقتة ، كما " الذين " معرفة غير مؤقتة - جاز من أجل ذلك أن يكون "غير المغضوب عليهم " نعتا ل " الذين أنعمت عليهم " كما يقال : " لا أجلس إلا إلى العالم غير الجاهل " ، يراد : لا أجلس إلا إلى من يعلم ، لا إلى من يجهل .

ولو كان " الذين أنعمت عليهم " معرفة موقتة . كان غير جائز أن يكون " غير المغضوب عليهم " لها نعتا . وذلك أنه خطأ في كلام العرب - إذا وصفت معرفة مؤقتة بنكرة - أن تلزم نعتها النكرة إعراب المعرفة المنعوت بها ، إلا على نية تكرير ما أعرب المنعوت بها . خطأ في كلامهم أن يقال : "مررت بعبد الله غير العالم " ، فتخفض " غير " ، إلا على نية تكرير الباء التي أعربت عبد الله . فكان معنى ذلك لو قيل كذلك : مررت بعبد الله ، مررت بغير العالم . فهذا أحد وجهي الخفض في : "غير المغضوب عليهم " .

والوجه الآخر من وجهي الخفض فيها : أن يكون " الذين " بمعنى المعرفة المؤقتة . وإذا وجه إلى ذلك ، كانت "غير " مخفوضة بنية تكرير "الصراط " الذي خفض "الذين " عليها ، فكأنك قلت : صراط الذين أنعمت عليهم ، صراط غير المغضوب عليهم .

وهذان التأويلان في " غير المغضوب عليهم " ، وإن اختلفا باختلاف معربيهما ، فإنهما يتقارب معناهما . من أجل أن من أنعم الله عليه فهداه لدينه الحق ، فقد سلم من غضب ربه ونجا من الضلال في دينه .

فسواء - إذا كان سبب قوله : " اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم " [ ص: 182 ] غير جائز أن يرتاب ، مع سماعه ذلك من تاليه ، في أن الذين أنعم الله عليهم بالهداية للصراط غير غاضب ربهم عليهم ، مع النعمة التي قد عظمت منته بها عليهم في دينهم; ولا أن يكونوا ضلالا وقد هداهم الحق ربهم . إذ كان مستحيلا في فطرهم اجتماع الرضى من الله جل ثناؤه عن شخص والغضب عليه في حال واحدة ، واجتماع الهدى والضلال له في وقت واحد - أوصف القوم; مع وصف الله إياهم بما وصفهم به من توفيقه إياهم وهدايته لهم ، وإنعامه عليهم بما أنعم الله به عليهم في دينهم ، بأنهم غير مغضوب عليهم ولا هم ضالون; أم لم يوصفوا بذلك . لأن الصفة الظاهرة التي وصفوا بها ، قد أنبأت عنهم أنهم كذلك ، وإن لم يصرح وصفهم به .

هذا ، إذا وجهنا " غير " إلى أنها مخفوضة على نية تكرير "الصراط " الخافض "الذين " ، ولم نجعل " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " من صفة " الذين أنعمت عليهم " ، بل إذا حملناهم غيرهم . وإن كان الفريقان لا شك منعما عليهما في أديانهم .

فأما إذا وجهنا " غير المغضوب عليهم ولا الضالين " إلى أنها من نعت ، " الذين أنعمت عليهم " . فلا حاجة بسامعه إلى الاستدلال ، إذ كان الصريح من معناه قد أغنى عن الدليل .

وقد يجوز نصب " غير " في " غير المغضوب عليهم " ، وإن كنت للقراءة بها كارها لشذوذها عن قراءة القراء . وإن ما شذ من القراءات عما جاءت به الأمة نقلا ظاهرا مستفيضا ، فرأي للحق مخالف . وعن سبيل الله وسبيل رسوله صلى الله عليه وسلم وسبيل المسلمين متجانف . وإن كان له - لو كان جائزا القراءة به - في الصواب مخرج . [ ص: 183 ]

وتأويل وجه صوابه إذا نصبت : أن يوجه إلى أن يكون صفة للهاء والميم اللتين في " عليهم " العائدة على " الذين " . لأنها وإن كانت مخفوضة ب " على " ، فهي في محل نصب بقوله : " أنعمت " . فكأن تأويل الكلام - إذا نصبت " غير " التي مع " المغضوب عليهم " - : صراط الذين هديتهم إنعاما منك عليهم ، غير مغضوب عليهم ، أي لا مغضوبا عليهم ولا ضالين . فيكون النصب في ذلك حينئذ ، كالنصب في " غير " في قولك : مررت بعبد الله غير الكريم ولا الرشيد ، فتقطع "غير الكريم " من "عبد الله " ، إذ كان "عبد الله " معرفة مؤقتة ، و "غير الكريم " نكرة مجهولة .

وقد كان بعض نحويي البصريين يزعم أن قراءة من نصب " غير " في "غير المغضوب عليهم " ، على وجه استثناء "غير المغضوب عليهم " من معاني صفة " الذين أنعمت عليهم " ، كأنه كان يرى أن معنى الذين قرأوا ذلك نصبا : اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم ، إلا المغضوب عليهم - الذين لم تنعم عليهم في أديانهم ولم تهدهم للحق - فلا تجعلنا منهم . كما قال نابغة بني ذبيان :


وقفت فيها أصيلانا أسائلها عيت جوابا ، وما بالربع من أحد     إلا أواري لأيا ما أبينها
والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد

[ ص: 184 ]

والأواري معلوم أنها ليست من عداد "أحد " في شيء . فكذلك عنده ، استثنى " غير المغضوب عليهم " من " الذين أنعمت عليهم " ، وإن لم يكونوا من معانيهم في الدين في شيء .

وأما نحويو الكوفيين ، فأنكروا هذا التأويل واستخفوه ، وزعموا أن ذلك لو كان كما قاله الزاعم من أهل البصرة ، لكان خطأ أن يقال : " ولا الضالين " .

لأن " لا " نفي وجحد ، ولا يعطف بجحد إلا على جحد . وقالوا : لم نجد في شيء من كلام العرب استثناء يعطف عليه بجحد ، وإنما وجدناهم يعطفون على الاستثناء بالاستثناء ، وبالجحد على الجحد ، فيقولون في الاستثناء : قام القوم إلا أخاك وإلا أباك .

وفي الجحد : ما قام أخوك ولا أبوك . وأما : قام القوم إلا أباك ولا أخاك . فلم نجده في كلام العرب . قالوا : فلما كان ذلك معدوما في كلام العرب ، وكان القرآن بأفصح لسان العرب نزوله ، علمنا - إذ كان قوله " ولا الضالين " معطوفا على قوله " غير المغضوب عليهم " - أن " غير " بمعنى الجحد لا بمعنى الاستثناء ، وأن تأويل من وجهها إلى الاستثناء خطأ .

فهذه أوجه تأويل " غير المغضوب عليهم " ، باختلاف أوجه إعراب ذلك .

وإنما اعترضنا بما اعترضنا في ذلك من بيان وجوه إعرابه - وإن كان قصدنا في هذا الكتاب الكشف عن تأويل آي القرآن - لما في اختلاف وجوه إعراب ذلك من اختلاف وجوه تأويله . فاضطرتنا الحاجة إلى كشف وجوه إعرابه ، لتنكشف لطالب تأويله وجوه تأويله ، على قدر اختلاف المختلفة في تأويله وقراءته .

والصواب من القول في تأويله وقراءته عندنا ، القول الأول ، وهو قراءة ( غير المغضوب عليهم ) بخفض الراء من " غير " . بتأويل أنها صفة ل "الذين أنعمت عليهم " ونعت لهم - لما قد قدمنا من البيان - إن شئت ، وإن شئت فبتأويل تكرار " صراط " . كل ذلك صواب حسن . [ ص: 185 ]

فإن قال لنا قائل : فمن هؤلاء المغضوب عليهم ، الذين أمرنا الله جل ثناؤه بمسألته أن لا يجعلنا منهم ؟

قيل : هم الذين وصفهم الله جل ثناؤه في تنزيله فقال : ( قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل ) سورة المائدة : 60 . فأعلمنا جل ذكره ثمة ، ما أحل بهم من عقوبته بمعصيتهم إياه . ثم علمنا ، منه منه علينا ، وجه السبيل إلى النجاة من أن يحل بنا مثل الذي حل بهم من المثلات ، ورأفة منه بنا .

فإن قيل : وما الدليل على أنهم أولاء الذين وصفهم الله وذكر نبأهم في تنزيله على ما وصفت ؟ قيل :

193 - حدثني أحمد بن الوليد الرملي ، قال : حدثنا عبد الله بن جعفر الرقي ، قال : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : المغضوب عليهم ، اليهود .

194 - حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك بن حرب ، قال : سمعت عباد بن حبيش يحدث ، عن عدي بن حاتم ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن المغضوب عليهم اليهود . [ ص: 186 ]

195 - حدثني علي بن الحسن ، قال : حدثنا مسلم بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا محمد بن مصعب ، عن حماد بن سلمة ، عن سماك بن حرب ، عن مري بن قطري ، عن عدي بن حاتم ، قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله جل وعز "غير المغضوب عليهم " قال : هم اليهود .

196 - حدثنا حميد بن مسعدة السامي ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا الجريري ، عن عبد الله بن شقيق : أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محاصر وادي القرى ، فقال : من هؤلاء الذين تحاصر يا رسول الله ؟ قال : هؤلاء المغضوب عليهم ، اليهود

. [ ص: 187 ] 197 - حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن سعيد الجريري ، عن عروة ، عن عبد الله بن شقيق : أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه .

198 - حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أنبأنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن بديل العقيلي ، قال : أخبرني عبد الله بن شقيق : أنه أخبره من سمع النبي صلى الله عليه وسلم - وهو بوادي القرى ، وهو على فرسه ، وسأله رجل من بني القين فقال : يا رسول الله ، من هؤلاء ؟ - قال : المغضوب عليهم . وأشار إلىاليهود .

199 - حدثنا القاسم بن الحسن ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا خالد الواسطي ، عن خالد الحذاء ، عن عبد الله بن شقيق ، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه

200 - حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : " غير المغضوب عليهم " ، يعني اليهود الذين غضب الله عليهم . [ ص: 188 ]

201 - حدثني موسى بن هارون الهمداني ، قال : حدثنا عمرو بن طلحة ، قال : حدثنا أسباط بن نصر ، عن السدي في خبر ذكره ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : " غير المغضوب عليهم " ، هم اليهود .

202 - حدثنا ابن حميد الرازي ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن مجاهد ، قال : " غير المغضوب عليهم " ، قال : هم اليهود .

203 - حدثنا أحمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا عبد الله ، عن أبي جعفر ، عن ربيع : " غير المغضوب عليهم " ، قال : اليهود .

204 - حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : " غير المغضوب عليهم " قال : اليهود .

205 - حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : " غير المغضوب عليهم " ، اليهود .

206 - حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني ابن زيد ، عن أبيه ، قال : " المغضوب عليهم " ، اليهود .

قال أبو جعفر : واختلف في صفة الغضب من الله جل ذكره :

فقال بعضهم : غضب الله على من غضب عليه من خلقه ، إحلال عقوبته بمن غضب عليه ، إما في دنياه ، وإما في آخرته ، كما وصف به نفسه جل ذكره في كتابه فقال : ( فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين ) سورة الزخرف : 55 .

وكما قال : ( قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير ) [ ص: 189 ] سورة المائدة : 60 .

وقال بعضهم : غضب الله على من غضب عليه من عباده ، ذم منه لهم ولأفعالهم ، وشتم لهم منه بالقول .

وقال بعضهم : الغضب منه معنى مفهوم ، كالذي يعرف من معاني الغضب ، غير أنه - وإن كان كذلك من جهة الإثبات - فمخالف معناه منه معنى ما يكون من غضب الآدميين الذين يزعجهم ويحركهم ويشق عليهم ويؤذيهم .

لأن الله جل ثناؤه لا تحل ذاته الآفات ، ولكنه له صفة ، كما العلم له صفة ، والقدرة له صفة ، على ما يعقل من جهة الإثبات ، وإن خالفت معاني ذلك معاني علوم العباد ، التي هي معارف القلوب ، وقواهم التي توجد مع وجود الأفعال وتعدم مع عدمها .

التالي السابق


الخدمات العلمية