الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 101 ] محمد بن شهاب الزهري

وهو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي
. هكذا نسبه مصعب الزبيري وغيره ، ليس في ذلك اختلاف ، قال مصعب : وأمه من بني الدئل بن عبد مناة بن كنانة .

قال أبو عمر :

كنيته أبو بكر وكان من علماء التابعين وفقهائهم , مقدم في الحفظ والإتقان والرواية والاتساع ، إمام جليل من أئمة [ ص: 102 ] الدين ، أدرك جماعة من الصحابة وروى عنهم ، منهم : أنس بن مالك وسهل بن سعد وعبد الرحمن بن أزهر الزهري وسنين أبو جميلة السلمي ومنهم عبد الله بن عمر فيما ذكره معمر عن ابن شهاب أنه سمع منه حديثه في الحج مع الحجاج وقيل : إنه سمع منه حديثين ، وقيل : ثلاثة ، وقد ذكرنا من صحح ذلك ومن نفاه في باب ابن شهاب عن سالم من هذا الكتاب ، وسمع ابن شهاب من جماعة أدركوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم صغار ، مثل : محمود بن الربيع ( وعبد الله بن عامر بن ربيعة ) وأبي الطفيل والسائب بن يزيد ونظرائهم ، وقد روي عن عمرو بن دينار أنه ذكر عنده الزهري فقال : وأي شيء عنده , أنا لقيت جابرا ولم يلقه ، ولقيت ابن عمر ولم يلقه ، ولقيت ابن عباس ولم يلقه . فقدم الزهري مكة فقيل لعمرو : قد جاء الزهري فقال : احملوني إليه - وكان قد أقعد - فحمل إليه فلم يأت أصحابه إلا بعد هوي من الليل فقيل له : كيف رأيت ؟ فقال : والله ما رأيت مثل هذا القرشي قط .

أخبرنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا أحمد [ ص: 103 ] بن يونس قال : حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون قال : قلت لابن شهاب : يا أبا بكر في حديث ذكره .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا موسى بن إسماعيل قال : حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال : جالست جابر بن عبد الله وابن عمر وابن عباس وابن الزبير فلم أر أحدا أنسق للحديث من الزهري .

حدثني خلف بن القاسم بن سهل الحافظ قال : حدثنا أبو الميمون عبد الرحمن بن عمر البجلي بدمشق ، قال : حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي قال : حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم قال : حدثنا أيوب بن سويد عن الأوزاعي قال : ما داهن ابن شهاب ملكا من الملوك قط إذا دخل عليه ، ولا أدركت خلافة هشام أحدا من التابعين أفقه منه .

وحدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا عبد الرحمن بن عمر قال : حدثنا أبو زرعة قال : حدثنا هشام بن خالد قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال : سمعت مكحولا يقول : ابن شهاب أعلم الناس .

[ ص: 104 ] قال الوليد : وسمعت سعيد بن عبد العزيز يقول : ما ابن شهاب إلا بحر .

وحدثني خلف بن القاسم قال : حدثنا أبو الميمون قال : حدثنا أبو زرعة قال : حدثنا سليمان بن عبد الرحمن قال : حدثنا ابن عياش عن أبي بكر بن أبي مريم قال : قلت لمكحول : من أعلم الناس ؟ قال ابن شهاب : قلت : ثم من ؟ قال ابن شهاب .

أخبرنا أحمد بن محمد قال : حدثنا أحمد بن الفضل قال : حدثنا محمد بن جرير قال : حدثنا ابن البرقي قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال : سمعت سعيد بن عبد العزيز يقول عن مكحول قال : ما بقي على ظهرها أعلم بسنة ماضية من الزهري .

وحدثنا أحمد بن محمد قال : حدثنا أحمد بن الفضل قال : حدثنا محمد بن جرير قال : حدثنا ابن البرقي قال : حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال : سمعت سعيد بن بشير [ ص: 105 ] يذكر عن قتادة قال : ما بقي على ظهرها إلا اثنان الزهري وآخر ، فظننا أنه يعني نفسه .

وحدثنا أحمد بن محمد قال : حدثنا أحمد بن الفضل قال : حدثنا محمد بن جرير قال : حدثت عن عبد العزيز بن عبد الله الأويسي قال : حدثني إبراهيم بن سعد بن إبراهيم عن أبيه ، قال : ما جمع أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جمع الزهري .

وذكر الحسن بن علي الحلواني ( في كتاب المعرفة ) قال : حدثنا محمد بن عيسى ( قال : حدثنا إسحاق بن عيسى ) الطباع قال : حدثني إبراهيم بن سعد عن أبيه ، قال : ما وعى أحد من العلم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما وعى ابن شهاب .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا أبو مسلم قال : حدثنا سفيان قال : قال الهذلي : جالست الحسن وابن سيرين فما رأيت مثله . يعني الزهري .

[ ص: 106 ] قال سفيان : كانوا يقولون ما بقي من الناس أحد أعلم بالسنة منه .

حدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا عبد الرحمن بن عمر قال : حدثنا أبو زرعة قال : حدثني معن بن الوليد قال : حدثنا جنادة بن محمد المري قال : حدثنا مخلد بن حسين عن الأوزاعي عن سليمان بن حبيب المحاربي قال : قال لي عمر بن عبد العزيز : ما أتاك به الزهري بسنده فاشدد به يديك .

وأخبرنا عبد الرحمن بن مروان قال : حدثنا الحسن بن يحيى القلزمي قال : حدثنا حاتم بن سهل قال : حدثنا إسحاق بن منصور قال : حدثنا ابن مهدي قال : حدثنا وهيب قال : سمعت أيوب يقول : ما رأيت أحدا أعلم من الزهري فقيل له : ولا الحسن ؟ قال : ما رأيت أعلم من الزهري .

وحدثنا عبد الوارث بن سفيان قال : حدثنا قاسم بن أصبغ قال : حدثنا أحمد بن زهير قال : حدثنا أحمد بن حنبل قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن وهيب [ ص: 107 ] قال : سمعت أيوب يقول : ما رأيت ( أحدا ) أعلم من الزهري فقال له صخر بن جويرية : ولا الحسن ؟ فقال : ما رأيت أعلم من الزهري .

وحدثنا خلف بن القاسم قال : حدثنا عبد الرحمن بن عمر قال : حدثنا أبو زرعة قال : حدثني أحمد قال : حدثنا مروان بن محمد قال : سمعت مالك بن أنس يقول : أخذت بلجام بغلة الزهري فسألته أن يعيد علي حديثا فقال : ما استعدت حديثا قط .

حدثنا عبد الله حدثنا أحمد حدثنا محمد حدثنا الزبير بن أبي بكر حدثنا إسماعيل بن أبي أويس ( حدثنا مالك ) قال : حدثنا ابن شهاب أربعين حديثا فتوهمت في حديث منها ، فانتظرته حتى خرج ، ثم سألته - وأخذت بلجام بغلته - عن الحديث الذي شككت فيه فقال : أولم أحدثكه ؟ قلت : بلى ، ولكني توهمت فيه , فقال : لقد فسدت الرواية خل لجام البغلة . فخليته ومضى .

أخبرنا عبد الوارث حدثنا قاسم حدثنا أبو إسماعيل الترمذي حدثنا أبو صالح عن الليث بن سعد قال : ما رأيت عالما قط أجمع من ابن شهاب ولا أكثر علما [ ص: 108 ] ولو سمعت ابن شهاب يحدث بالترغيب لقلت : ما يحسن إلا هذا ، وإن حدث عن الأنبياء وأهل الكتاب قلت : لا يحسن إلا هذا ، وإن حدث عن العرب والأنساب قلت : لا يحسن إلا هذا ، وإن حدث عن القرآن ، والسنة كان حديثه .

وذكر الحلواني قال : حدثنا يحيى بن بكير قال : حدثنا الليث عن جعفر بن ربيعة قال : قلت لعراك بن مالك : من أفقه أهل المدينة فقال : أما أعلمهم بقضايا رسول الله ، - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان وأفقههم فقها وأعلمهم بما مضى من أمر الناس فسعيد بن المسيب وأما أغزرهم حديثا فعروة بن الزبير ولا تشاء أن تفجر من عبيد الله بن عبد الله بحرا إلا فجرته ، قال عراك : وأعلمهم عندي ابن شهاب لأنه جمع علمهم جميعا إلى علمه .

حدثنا خلف بن أحمد حدثنا أحمد بن سعيد حدثنا أحمد بن خالد حدثنا مروان حدثنا أبو حاتم حدثنا الأصمعي حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون قال : سمعت ابن شهاب يقول : ما كتبت شيئا قط ، ولقد وليت الصدقة فأتيت سالم بن عبد الله فأخرج إلي كتاب [ ص: 109 ] الصدقة فقرأه علي فحفظته وأتيت إلى ( أبي بكر ) بن حزم فقرأ علي كتاب العقول فحفظته .

أخبرنا عبد الله بن محمد بن يوسف قال : أخبرنا أحمد بن محمد بن إسماعيل قال : حدثنا محمد بن الحسن قال : حدثنا الزبير بن أبي بكر قال : حدثني إبراهيم بن المنذر عن عبد العزيز بن عمران أن عبد الملك كتب إلى أهل المدينة يعاتبهم فوصل كتابه في طومار فقرئ ( الكتاب ) على الناس على المنبر ، فلما فرغوا وافترق الناس اجتمع إلى سعيد بن المسيب جلساؤه فقال لهم سعيد : ما كان في كتابكم ؟ فإنا نود أن نعرف ما فيه . فجعل الرجل منهم يقول : فيه كذا ( وكذا ) والآخر يقول : فيه كذا وكذا ( أيضا ) فلم يشتف سعيد فيما سأل عنه فقال لابن شهاب : فقال : أتحب ( يا أبا محمد ) أن تسمع كل ما فيه ( كاملا ) ؟ قال : نعم .

[ ص: 110 ] قال : فأمسك فهذه - والله - هذا ، كأنما هو في يده فقرأه حتى أتى على آخره ، قال : وقال ابن شهاب : ما استودعت قلبي شيئا قط فنسيته .

أخبرنا سعيد بن نصر حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا ابن وضاح حدثنا دحيم حدثنا عبد الأعلى أبو مسهر قال : حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال : كان سليمان بن موسى يقول : إذا جاءنا العلم من الحجاز عن الزهري قبلناه ، وإن جاءنا من العراق عن الحسن قبلناه ، وإن جاءنا من الجزيرة عن ميمون بن مهران قبلناه ، وإن جاءنا من الشام عن مكحول قبلناه ، قال : سعيد كان هؤلاء الأربعة علماء الناس في خلافة هشام .

حدثنا خلف بن أحمد حدثنا أحمد بن سعيد قال : سمعت عبد الله بن جعفر ( أبا ) القاسم القزويني يقول : سمعت طاهر بن خالد بن نزار يقول : سمعت أبي يقول : سمعت القاسم بن مبرور يقول : سمعت يونس بن يزيد [ ص: 111 ] يقول : كان ابن شهاب إذا دخل رمضان ، فإنما هو تلاوة القرآن وإطعام الطعام . وكان ابن شهاب أكرم الناس , وأخباره في الجود كثيرة ( جدا ) نذكر منها لمحة دالة :

أخبرنا عبد الله بن محمد حدثنا ( أحمد بن محمد ) بن إسماعيل حدثنا محمد بن الحسن حدثنا الزبير بن أبي بكر القاضي حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال : ما رأيت أنص للحديث من ابن شهاب ولا رأيت أجود منه ، ما كانت الدنانير والدراهم عنده إلا بمنزلة البعر .

قال الزبير : وحدثني عبد الرحمن بن عبد الله الزهري عن عمه موسى بن عبد العزيز قال : كان ابن شهاب إذا أبى أحد من أصحاب الحديث ( أن ) يأكل طعامه حلف أن لا يحدثه عشرة أيام .

وذكر ابن وهب عن مالك قال : قيل لابن شهاب لو جلست إلى سارية تفتي الناس ، قال : إنما يجلس هذا المجلس من زهد في الدنيا .

وذكر الحلواني حدثنا أبو صالح عن الليث عن ابن شهاب أنه قال : ما استودعت قلبي شيئا قط فنسيته .

[ ص: 112 ] قال ( الحلواني ) : وحدثنا أحمد بن صالح قال : حدثنا مطرف قال : سمعت مالكا يقول : ما رأيت محدثا فقيها إلا واحدا . قلت : من هو ؟ قال : ابن شهاب .

وقال : عبيد الله بن سعيد أبو قدامة سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول : ما أحد أعلم بحديث المدنيين من الزهري وبعد الزهري يحيى بن أبي كثير وليس مرسل أصح من مرسل الزهري لأنه حافظ ، وقال ابن المبارك : حديث الزهري عندنا كأخذ باليد .

قال ورأي الزهري أحب إلي من حديث أبي حنيفة .

قال أبو عمر :

أخبار الزهري أكثر من أن تحوى في كتاب فضلا عن أن تجمع في باب ، وإنما ذكرت منها هاهنا طرفا دالا على موضعه ومكانه من العلم ، وإمامته وحفظه ، وكان نقش خاتم الزهري : محمد يسأل الله العافية ، ومما ينشد لابن شهاب يخاطب أخاه عبد الله :


أقول لعبد الله يوم لقيته وقد شد أحلاس المطي مشرقا     تتبع خبايا الأرض وادع مليكها
لعلك يوما أن تجاب فترزقا

[ ص: 113 ] وقد روي أنه قالها لعبد الله بن عبد الملك بن مروان وهي أبيات .

وولد - رحمه الله - سنة إحدى وخمسين وقيل سنة ثمان وخمسين في آخر خلافة معاوية وهي السنة التي توفيت فيها عائشة أم المؤمنين ، وأبو هريرة ومات رضي الله عنه سنة أربع وعشرين ومائة في شهر رمضان ليلة سبع عشرة منه ، وهو ابن ست وستين ( سنة ) ( وذلك قبل موت هشام بعام ) وقيل : إنه مات وهو ابن اثنتين وسبعين سنة ودفن على قارعة الطريق ليدعى له ، وكانت وفاته بضيعة له بناحية شغب وبدا , مرض هنالك وأوصى أن يدفن على قارعة الطريق فدفن بموضع يقال له إدامى ، وهي خلف شغب وبدا ، وهي أول عمل فلسطين ، وآخر عمل الحجاز .

[ ص: 114 ] هذا كله قول الواقدي ومصعب الزبيري والزبير بن بكار والطبري وغيرهم ، دخل كلام بعضهم في بعض ، والله المستعان .

ولابن شهاب في الموطإ رواية يحيى بن يحيى عن مالك من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مائة حديث ، وأحد وثلاثون حديثا ، منها متصلة مسندة اثنان وتسعون حديثا ، وسائرها منقطعة مرسلة , فأول المسند ما رواه عن أنس بن مالك وذلك خمسة أحاديث .

التالي السابق


الخدمات العلمية