الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 370 ] قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين استئناف بياني لما ينتظره سامع القصة من معرفة ما لقيه من قومه بعد أن واجههم بذلك الخطاب الجزل . وهل اهتدوا بهديه أو أعرضوا عنه وتاركوه أو آذوه كما يؤذى أمثاله من الداعين إلى الحق المخالفين هوى الدهماء فيجاب بما دل عليه قوله قيل ادخل الجنة وهو الأهم عند المسلمين وهم من المقصودين بمعرفة مثل هذا ليزدادوا يقينا وثباتا في إيمانهم ، وأما المشركون فحظهم من المثل ما تقدم وما يأتي من قوله إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون .

وفي قوله قيل ادخل الجنة كناية عن قتله شهيدا في إعلاء كلمة الله لأن تعقيب موعظته بأمره بدخول الجنة دفعة بلا انتقال يفيد بدلالة الاقتضاء أنه مات وأنهم قتلوه لمخالفته دينهم ، قال بعض المفسرين : قتلوه رجما بالحجارة ، وقال بعضهم : أحرقوه ، وقال بعضهم : حفروا له حفرة وردموه فيها حيا .

وإن هذا الرجل المؤمن قد أدخل الجنة عقب موته لأنه كان من الشهداء ، والشهداء لهم مزية التعجيل بدخول الجنة دخولا غير موسع . ففي الحديث إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تأكل من ثمار الجنة .

والقائل ادخل الجنة هو الله تعالى .

والمقول له هو الرجل الذي جاء من أقصى المدينة ، وإنما لم يذكر ضمير المقول له مجرورا باللام لأن القول المذكور هنا قول تكويني لا يقصد منه المخاطب به بل يقصد حكاية حصوله ؛ لأنه إذا حصل حصل أثره كقوله تعالى ( أن نقول له كن فيكون ) .

وإذ لم يقص في المثل أنه غادر مقامه الذي قام فيه بالموعظة كان ذلك إشارة إلى أنه مات في مقامه ذلك ، ويفهم منه أنه مات قتيلا في ذلك الوقت أو بأثره .

وإنما سلك في هذا المعنى طريق الكناية ولم يصرح بأنهم قتلوه إغماضا لهذا المعنى عن المشركين كيلا يسرهم أن قومه قتلوه فيجعلوه من جملة ما ضرب به [ ص: 371 ] المثل لهم وللرسول - صلى الله عليه وسلم - فيطمعوا فيه أنهم يقتلون الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهذه الكناية لا يفهمها إلا أهل الإسلام الذين تقرر عندهم التلازم بين الشهادة في سبيل الله ودخول الجنة ، أما المشركون فيحسبون أن ذلك في الآخرة . وقد تكون في الكلام البليغ خصائص يختص بنفعها بعض السامعين .

وجملة قال يا ليت قومي يعلمون مستأنفة أيضا استئنافا بيانيا لأن السامع يترقب ماذا قال حين غمره الفرح بدخول الجنة . والمعنى : أنه لم يلهه دخول الجنة عن حال قومه ، فتمنى أن يعلموا ماذا لقي من ربه ليعلموا فضيلة الإيمان فيؤمنوا وما تمنى هلاكهم ولا الشماتة بهم فكان متسما بكظم الغيظ وبالحلم على أهل الجهل ، وذلك لأن عالم الحقائق لا تتوجه فيه النفس إلا إلى الصلاح المحض ولا قيمة للحظوظ الدنية وسفساف الأمور .

وأدخلت الباء على مفعول يعلمون لتضمينه معنى : يخبرون ، لأنه لا مطمع في أن يحصل لهم علم ذلك بالنظر والاستدلال .

و ( ما ) من قوله ( بما غفر لي ربي ) مصدرية ، أي يعلمون بغفران ربي وجعله إياي من المكرمين .

والمراد بالمكرمين : الذين تلحقهم كرامة الله تعالى وهم الملائكة والأنبياء وأفضل الصالحين قال تعالى بل عباد مكرمون يعني الملائكة وعيسى عليهم السلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية