الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد

لما جاءهم التعريض بالتهديد من لازم المتاركة المدلول عليها بقوله فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي للعلم بأن الضال يستحق العقاب أتبع حالهم حين يحل بهم الفزع من مشاهدة ما هددوا به .

والخطاب للنبيء - صلى الله عليه وسلم - تسلية له أو لكل مخاطب . وحذف جواب " لو " للتهويل . والتقدير : لرأيت أمرا فظيعا .

ومفعول " ترى " يجوز أن يكون محذوفا ، أي لو تراهم ، أو ترى عذابهم ويكون " إذ فزعوا " ظرفا لـ " ترى " ، ويجوز أن يكون " إذ " هو المفعول به وهو مجرد عن الظرفية ، أي لو ترى ذلك الزمان ، أي ترى ما يشتمل عليه .

والفزع : الخوف المفاجئ ، وقال النبيء - صلى الله عليه وسلم - للأنصار : إنكم لتكثرون [ ص: 242 ] عند الفزع وتقلون عند الطمع . وهذا الفزع عند البعث يشعر بأنهم كانوا غير مهيئين لهذا الوقت أسباب النجاة من هوله .

والأخذ : حقيقته التناول وهو هنا مجاز في الغلب والتمكن بهم كقوله تعالى فأخذهم أخذة رابية ، والمعنى : أمسكوا وقبض عليهم لملاقاة ما أعد لهم من العقاب .

وجملة " فلا فوت " معترضة بين المتعاطفات . والفوت : التفلت والخلاص من العقاب ، قال رويشد الطائي :


إن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكم مما علي بذنب منكم فوت

أي إذا أذنبتم فجاءت جماعة منكم معتذرين فذلك لا يدفع عنكم جزاءكم على ذنبكم .

وفي الكشاف : ولو ، وإذ ، والأفعال التي هي فزعوا ، وأخذوا ، وحيل بينهم ، كلها للمضي ، والمراد بها الاستقبال لأن ما الله فاعله في المستقبل بمنزلة ما كان ووجد لتحقيقه اهـ . ويزداد عليها فعل " وقالوا " .

والمكان القريب : المحشر ، أي أخذوا منه إلى النار ، فاستغنى بذكر من الابتدائية عن ذكر الغاية لأن كل مبدأ له غاية ، ومعنى قرب المكان أنه قريب إلى جهنم بحيث لا يجدون مهلة لتأخير العذاب .

وليس بين كلمتي " قريب " هنا والذي في قوله إنه سميع قريب ما يشبه الإبطاء في الفواصل لاختلاف الكلمتين بالحقيقة والمجاز فصار في الجمع بينهما محسن الجناس التام .

وعطف " وقالوا " على " أخذوا " أي يقولون حينئذ : آمنا به .

وضمير " به " للوعيد أو ليوم البعث أو للنبيء - صلى الله عليه وسلم - أو القرآن ، إذا كان الضمير محكيا من كلامهم لأن جميع ما يصح معادا للضمير مشاهد لهم وللملائكة ، فأجملوا فيما يراد الإيمان به لأنهم ضاق عليهم الوقت فاستعجلوه بما يحسبونه منجيا لهم من العذاب ، وإن كان الضمير من الحكاية فهو عائد إلى الحق من قوله قل إن ربي يقذف بالحق لأن الحق يتضمن ذلك كله .

[ ص: 243 ] ثم استطرد الكلام بمناسبة قولهم آمنا به إلى إضاعتهم وقت الإيمان بجملة وأنى لهم التناوش إلى آخرها .

و " أنى " استفهام عن المكان وهو مستعمل في الإنكار .

و " التناوش " قرأه الجمهور بواو مضمومة بعد الألف وهو التناول السهل أو الخفيف وأكثر وروده في شرب الإبل شربا خفيفا من الحوض ونحوه ، قال غيلان بن حريث :


باتت تنوش الحوض نوشا من علا     نوشا به تقطع أجواز الفلا

يتحدث عن رحلته ، أي تتناول الماء من أعلاه ولا تغوص مشافرها فيه .

وجملة وأنى لهم التناوش من مكان بعيد مركب تمثيلي يفيد تشبيه حالهم إذ فرطوا في أسباب النجاة وقت المكنة منها حين كان النبيء - صلى الله عليه وسلم - يدعوهم ويحرضهم ويحذرهم وقد عمرهم الله ما يتذكر فيه من تذكر ثم جاءوا يطلبون النجاة بعد فوات وقتها بحالهم كحال من يريد تناوشها وهو في مكان بعيد عن مراده الذي يجب تناوله .

وهذا التمثيل قابل لتفريق أجزائه بأن يشبه السعي بما يحصل بسرعة بالتناوش ويشبه فوات المطلوب بالمكان البعيد كالحوض .

وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف بالهمز في موقع الواو فقال الزجاج : وهو من إبدال الواو المضمومة همزة لقصد التخفيف في نطق الضمة كقوله تعالى " أقتت " وقولهم : أجوه : جمع وجه . وبحث فيه أبو حيان ، وقال الفراء والزجاج أيضا : هو من نأش بالهمز إذا أبطأ وتأخر في عمل . ومنه قول نهشل بن حري النهشلي :


تمنى نئيشا أن يكون أطاعني     وقد حدثت بعد الأمور أمور

أي تمنى أخيرا .

وفسر المعري في رسالة الغفران نئيشا بمعنى : بعد ما فات . وعلى كلا التفسيرين فالمراد بالتناوش وصف قولهم : " آمنا به " بأنه إيمان تأخر وقته أو فات وقته .

[ ص: 244 ] وفي الجمع بين " مكان قريب " و " مكان بعيد " محسن الطباق .

وجملة وقد كفروا به من قبل في موضع الحال ، أي كيف يقولون آمنا به في وقت الفوات والحال أنهم كفروا به من قبل في وقت التمكن فهو كقوله تعالى وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون .

و " يقذفون " عطف على كفروا فهي حال ثانية . والتقدير : وكانوا يقذفون بالغيب . واختيار صيغة المضارع لحكاية الحالة كقوله تعالى ويصنع الفلك .

والقذف : الرمي باليد من بعد . وهو هنا مستعار للقول بدون ترو ولا دليل ، أي يتكلمون فيما غاب عن القياس من أمور الآخرة بما لا علم لهم به إذ أحالوا البعث والجزاء وقالوا لشركائهم : هم شفعاؤنا عند الله .

ولك أن تجعل يقذفون بالغيب من مكان بعيد تمثيلا مثل ما في قوله وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ، شبهوا بحال من يقذف شيئا وهو غائب عنه لا يراه فهو لا يصيبه ألبتة .

وحذف مفعول " يقذفون " لدلالة فعل وقد كفروا به من قبل عليه ، أي يقذفون أشياء من الكفر يرمون بها جزافا .

والغيب : المغيب . والباء للملابسة ، والمجرور بها في موضع الحال من ضمير يقذفون ، أي يقذفون وهم غائبون عن المقذوف من مكان بعيد .

و " مكان بعيد " هنا مستعمل في حقيقته يعني من الدنيا ، وهي مكان بعيد عن الآخرة للاستغناء عن استعارته لما لا يشاهد منه بقوله " بالغيب " كما علمت ، فتعين للحقيقة لأنها الأصل ، وبذلك فليس بين لفظ " بعيد " المذكور هنا والذي في قوله وأنى لهم التناوش من مكان بعيد ما يشبه الإبطاء لاختلاف الكلمتين بالمجاز والحقيقة .

التالي السابق


الخدمات العلمية