الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير

كان من جملة غرورهم في نفي البعث أنهم يجعلون عدم إعلام الناس بتعيين وقته أمارة على أنه غير واقع ، قال تعالى ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين وقال وما يدريك لعل الساعة قريب يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها ، فلما جرى في الآيات قبلها ذكر يوم القيامة أعقبت بأن وقت الساعة لا يعلمه إلا الله .

فجملة إن الله عنده علم الساعة مستأنفة استئنافا بيانيا لوقوعها جوابا عن سؤال مقدر في نفوس الناس . والجمل الأربع التي بعدها إدماج لجمع نظائرها تعليما للأمة . وقال الواحدي والبغوي : إن رجلا من محارب خصفة من أهل البادية سماه في الكشاف الحارث بن عمرو - وقع في تفسير القرطبي وفي أسباب النزول للواحدي تسميته الوارث بن عمرو بن حارثة - جاء إلى النبيء صلى الله عليه وسلم فقال : متى الساعة ؟ وقد أجدبت بلادنا فمتى تخصب ؟ وتركت امرأتي حبلى فما تلد ؟ وماذا أكسب غدا ؟ وبأي أرض أموت ، فنزلت هذه الآية ، ولا يدرى سند هذا . ونسب إلى عكرمة ومقاتل ، ولو صح لم يكن منافيا لاعتبار هذه الجملة استئنافا بيانيا فإنه مقتضى السياق .

وقد أفاد التأكيد بحرف إن تحقيق علم الله تعالى بوقت الساعة وذلك يتضمن تأكيد وقوعها . وفي كلمة عنده إشارة إلى اختصاصه تعالى بذلك العلم لأن [ ص: 197 ] العندية شأنها الاستئثار . وتقديم عند وهو ظرف مسند على المسند إليه يفيد التخصيص بالقرينة الدالة على أنه ليس مراد به مجرد التقوى .

وجملة وينزل الغيث عطف على جملة الخبر . والتقدير : وإن الله ينزل الغيث ، فيفيد التخصيص بتنزيل الغيث . والمقصود أيضا عنده علم وقت نزول الغيث وليس المقصود مجرد الإخبار بأنه ينزل الغيث لأن ذلك ليس مما ينكرونه ولكن نظمت الجملة بأسلوب الفعل المضارع ليحصل مع الدلالة على الاستئثار بالعلم به الامتنان بذلك المعلوم الذي هو نعمة .

وفي اختيار الفعل المضارع إفادة أنه يجدد إنزال الغيث المرة بعد المرة عند احتياج الأرض . ولا التفات إلى من قدروا : ينزل الغيث ، بتقدير ( أن ) المصدرية على طريقة قول طرفة :


ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى

للبون بين المقامين وتفاوت الدرجتين في البلاغة . وإذ قد جاء هذا نسقا في عداد الحصر كان الإتيان بالمسند فعلا خبرا عن مسند إليه مقدم مفيدا للاختصاص بالقرينة; فالمعنى : وينفرد بعلم وقت نزول الغيث من قرب وبعد وضبط وقت .

وعطف عليه ويعلم ما في الأرحام ، أي ينفرد بعلم جميع أطواره من نطفة وعلقة ومضغة ثم من كونه ذكرا أو أنثى وإبان وضعه بالتدقيق ، وجيء بالمضارع لإفادة تكرر العلم بتبدل تلك الأطوار والأحوال . والمعنى : ينفرد بعلم جميع تلك الأطوار التي لا يعلمها الناس لأنه عطف على ما قصد منه الحصر فكان المسند الفعلي المتأخر عن المسند إليه مفيدا للاختصاص بالقرينة كما قلنا في قوله تعالى والله يقدر الليل والنهار .

وأما قوله وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت فقد نسج على منوال آخر من النظم فجعل سداه نفي علم أية نفس بأخص أحوالها وهو حال اكتسابها القريب منها في اليوم الموالي يوم تأملها ونظرها ، وكذلك مكان انقضاء حياتها للنداء عليهم بقلة علمهم; فإذا كانوا بهذه المثابة في [ ص: 198 ] قلة العلم فكيف يتطلعون إلى علم أعظم حوادث هذا العالم وهو حادث فنائه وانقراضه واعتياضه بعالم الخلود . وهذا النفي للدراية بهذين الأمرين عن كل نفس فيه كناية عن إثبات العلم بما تكسب كل نفس والعلم بأي أرض تموت فيها كل نفس إلى الله تعالى ، فحصلت إفادة اختصاص الله تعالى بهذين العلمين فكانا في صميمة ما انتظم معهما مما تقدمهما .

وعبر في جانب نفي معرفة الناس بفعل الدراية لأن الدراية علم فيه معالجة للاطلاع على المعلوم ولذلك لا يعبر بالدراية عن علم الله تعالى فلا يقال : الله يدري كذا ، فيفيد : انتفاء علم الناس بعد الحرص على علمه ، والمعنى : لا يعلم ذلك إلا الله تعالى بقرينة مقابلتهما بقوله وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام . وقد علق فعل الدراية عن العمل في مفعولين بوقوع الاستفهامين بعدهما ، أي ما تدري هذا السؤال ، أي جوابه .

وقد حصل إفادة اختصاص الله تعالى بعلم هذه الأمور الخمسة بأفانين بديعة من أفانين الإيجاز البالغ حد الإعجاز .

ولقبت هذه الخمسة في كلام النبيء صلى الله عليه وسلم بمفاتح الغيب وفسر بها قوله تعالى وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ، ففي صحيح البخاري من حديث ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مفاتح الغيب خمس ثم قرأ إن الله عنده علم الساعة الآية ، ومن حديث أبي هريرة . . . في خمس لا يعلمهن إلا الله إن الله عنده علم الساعة جوابا عن سؤال جبريل متى الساعة ؟ . . . .

ومعنى حصر مفاتح الغيب في هذه الخمسة أنها هي الأمور المغيبة المتعلقة بأحوال الناس في هذا العالم وأن التعبير عنها بالمفاتح أنها تكون مجهولة للناس فإذا وقعت فكأن وقوعها فتح لما كان مغلقا وأما بقية أحوال الناس فخفاؤها عنهم متفاوت ويمكن لبعضهم تعيينها مثل تعيين يوم كذا للزفاف ويوم كذا للغزو وهكذا مواقيت العبادات والأعياد ، وكذلك مقارنات الأزمنة مثل : يوم كذا مدخل الربيع ; فلا تجد مغيبات لا قبل لأحد بمعرفة وقوعها من أحوال الناس في هذا العالم غير هذه الخمسة فأما في العوالم الأخرى وفي الحياة الآخرة فالمغيبات عن علم الناس كثيرة وليست لها مفاتح علم في هذا العالم .

[ ص: 199 ] وجملة إن الله عليم خبير مستأنفة ابتدائية واقعة موقع النتيجة لما تضمنه الكلام السابق من إبطال شبهة المشركين بقوله تعالى إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا كموقع قوله في قصة لقمان إن الله لطيف خبير عقب قوله إنها إن تك مثقال حبة من خردل الآية .

والمعنى : أن الله عليم بمدى وعده خبير بأحوالكم مما جمعه قوله وما تدري نفس ماذا تكسب غدا إلخ . ولذا جمع بين الصفتين صفة ( عليم ) وصفة ( خبير ) لأن الثانية أخص .

التالي السابق


الخدمات العلمية