الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 172 ] ( سورة التوبة )

                                                                                                                                                                                                                                            مدنية ، إلا الآيتين الأخيرتين فمكيتان

                                                                                                                                                                                                                                            وآياتها "129" نزلت بعد المائدة

                                                                                                                                                                                                                                            قال صاحب "الكشاف" : لها عدة أسماء : براءة ، والتوبة ، والمقشقشة ، والمبعثرة ، والمشردة ، والمخزية ، والفاضحة ، والمثيرة ، والحافرة ، والمنكلة ، والمدمدمة ، وسورة العذاب ، قال : لأن فيها التوبة على المؤمنين ، وهي تقشقش من النفاق أي تبرئ منه ، وتبعثر عن أسرار المنافقين ، وتبحث عنها ، وتثيرها ، وتحفر عنها ، وتفضحهم ، وتنكل بهم ، وتشردهم وتخزيهم ، وتدمدم عليهم ، وعن حذيفة : إنكم تسمونها سورة التوبة ، والله ما تركت أحدا إلا نالت منه ، وعن ابن عباس في هذه السورة قال : إنها الفاضحة ما زالت تنزل فيهم وتنال منهم حتى خشينا أن لا تدع أحدا ، وسورة الأنفال نزلت في بدر ، وسورة الحشر نزلت في بني النضير .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : ما السبب في إسقاط التسمية من أولها ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : ذكروا فيه وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الأول : روي عن ابن عباس قال : قلت لعثمان بن عفان ، ما حملكم على أن عمدتم إلى سورة براءة وهي من المئين ، وإلى سورة الأنفال وهي من المثاني ، فقرنتم بينهما وما فصلتم ببسم الله الرحمن الرحيم ؟ فقال : كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما نزلت عليه سورة يقول : " ضعوها في موضع كذا " وكانت براءة من آخر القرآن نزولا ، فتوفي صلى الله عليه وسلم ولم يبين موضعها ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فقرن بينهما ، قال القاضي : يبعد أن يقال : إنه عليه السلام لم يبين كون هذه السورة تالية لسورة الأنفال ؛ لأن القرآن مرتب من قبل الله تعالى ومن قبل رسوله على الوجه الذي نقل ، ولو جوزنا في بعض السور أن لا يكون ترتيبها من الله على سبيل الوحي ، لجوزنا مثله في سائر السور وفي آيات السورة الواحدة ، وتجويزه يطرف ما يقوله الإمامية من تجويز الزيادة والنقصان في القرآن . وذلك يخرجه من كونه حجة ، بل الصحيح أنه عليه السلام أمر بوضع هذه السورة ، بعد سورة الأنفال وحيا ، وأنه عليه السلام حذف بسم الله الرحمن الرحيم من أول هذه السورة وحيا .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني : في هذا الباب ما يروى عن أبي بن كعب أنه قال : إنما توهموا ذلك ؛ لأن في الأنفال ذكر العهود ، وفي براءة نبذ العهود ، فوضعت إحداهما بجنب الأخرى ، والسؤال المذكور عائد ههنا ؛ لأن هذا الوجه إنما يتم إذا قلنا : إنهم إنما وضعوا هذه السورة بعد الأنفال من قبل أنفسهم لهذه العلة .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 173 ] والوجه الثالث : أن الصحابة اختلفوا في أن سورة الأنفال وسورة التوبة سورة واحدة أم سورتان ؟ فقال بعضهم : هما سورة واحدة ؛ لأن كلتيهما نزلت في القتال ومجموعهما هذه السورة السابعة من الطوال وهي سبع ، وما بعدها المئون . وهذا قول ظاهر لأنهما معا مائتان وست آيات ، فهما بمنزلة سورة واحدة . ومنهم من قال : هما سورتان ، فلما ظهر الاختلاف بين الصحابة في هذا الباب تركوا بينهما فرجة تنبيها على قول من يقول هما سورتان ، وما كتبوا بسم الله الرحمن الرحيم بينهما تنبيها على قول من يقول هما سورة واحدة ، وعلى هذا القول لا يلزمنا تجويز مذهب الإمامية ؛ وذلك لأنه لما وقع الاشتباه في هذا المعنى بين الصحابة لم يقطعوا بأحد القولين ، وعملوا عملا يدل على أن هذا الاشتباه كان حاصلا ، فلما لم يتسامحوا بهذا القدر من الشبهة دل على أنهم كانوا مشددين في ضبط القرآن عن التحريف والتغيير ، وذلك يبطل قول الإمامية .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الرابع : في هذا الباب : أنه تعالى ختم سورة الأنفال بإيجاب أن يوالي المؤمنون بعضهم بعضا وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية ، ثم إنه تعالى صرح بهذا المعنى في قوله :( براءة من الله ورسوله ) فلما كان هذا عين ذلك الكلام وتأكيدا له وتقريرا له ، لزم وقوع الفاصل بينهما ، فكان إيقاع الفصل بينهما تنبيها على كونهما سورتين متغايرتين ، وترك كتب بسم الله الرحمن الرحيم بينهما تنبيها على أن هذا المعنى هو عين ذلك المعنى .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الخامس : قال ابن عباس : سألت عليا رضي الله عنه : لم لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم بينهما ؟ قال : لأن بسم الله الرحمن الرحيم أمان ، وهذه السورة نزلت بالسيف ونبذ العهود وليس فيها أمان ، ويروى أن سفيان بن عيينة ذكر هذا المعنى ، وأكده بقوله تعالى :( ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ) [ النساء : 94] فقيل له : أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل الحرب بسم الله الرحمن الرحيم ، فأجاب عنه : بأن ذلك ابتداء منه بدعوتهم إلى الله ، ولم ينبذ إليهم عهدهم ، ألا تراه قال في آخر الكتاب : " والسلام على من اتبع الهدى " وأما في هذه السورة فقد اشتملت على المقاتلة ونبذ العهود فظهر الفرق .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه السادس : قال أصحابنا : لعل الله تعالى لما علم من بعض الناس أنهم يتنازعون في كون بسم الله الرحمن الرحيم من القرآن ، أمر بأن لا تكتب ههنا ، تنبيها على كونها آية من أول كل سورة ، وأنها لما لم تكن آية من هذه السورة ، لا جرم لم تكتب ، وذلك يدل على أنها لما كتبت في أول سائر السور وجب كونها آية من كل سورة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية